لعل إستقراء الخريطة المعرفية للثورة الشعبية المصرية بموجتيها 25 يناير 2011 و30 يونيو 2013، مسألة باتت بالغة الأهمية للكشف عن ملامح "الثوري المجهول" الذي صنع مشهد الاستفتاء العظيم على الدستور الجديد فيما يمضي لاستكمال استحقاقات عام المصير. وفي فاتحة عام 2014 الذي يكون بأعوام واعوام مما يعدون ابهر المصريون العالم مجددا بخروجهم الكبير للتصويت على مشروع الدستور وسط مؤشرات تؤكد تأييدا شعبيا ساحقا لهذا الدستور الجديد فيما تزخر الصحافة ووسائل الاعلام الغربية بتقارير واراء وطروحات تسعى لفهم ماحدث ومغزاه على مستوى المنطقة والعالم. وواقع الحال ان ظاهرة "الثوري المجهول" هي وليدة احد اهم ملامح الثورة الشعبية المصرية منذ 25 يناير 2011 اي ظهور الحشود الجماهيرية الهائلة في لحظات فارقة ولعلك تجد هذا الثورى المجهول بين ابناء القاهرة وكبريات مدن مصر تماما كما ستجده فى قرى مصر وكفورها ونجوعها . وتعددت الطروحات التى تناولت مسألة غياب رأس او قيادة لثورة 25 يناير معتبرة انها ثورة فريدة لأنها ثورة شعب كان فيه كل ثائر هو القائد رغم ان البعض سعى لاستغلال هذه الوضعية الفريدة والنبيلة والادعاء بأنه المتحدث باسم هذه الثورة والملايين الذين شاركوا فيها والشهداء الذين ضحوا بأرواحهم الطاهرة من اجل انتصارها. ومنذ البداية بدا الكاتب والمفكر المصرى السيد ياسين وصاحب كتاب "25 يناير:الشعب على منصة التاريخ" مهموما بتفسير غياب قيادة محددة ومعلومة لثورة 25 يناير معتبرا ان "الانتفاضة الثورية بدأت على يد شباب الفيس بوك والتحمت بها جموع الشعب فتحولت الى ثورة شعبية قامت بغير قيادة وهدمت النظام القديم وهى تحاول جاهدة بناء النظام الجديد". ويرى السيد ياسين انه لايمكن فهم المشهد السياسي الراهن في مصر بعمق دون رسم خريطة معرفية للمجتمع المصري بعد ثورة 25 يناير فيما يؤكد على ان ملامح المجتمع المصري بعد الثورة تتضمن انزواء دور المثقف التقليدي الذي ساد طوال القرن العشرين. اما توبى ويلكينسون الباحث المرموق فى جامعة كامبريج فيبدو مهموما على ايقاع الثورة الشعبية المصرية فى البحث عن الجذور التاريخية لهذه الثورة ويكاد يتحسس ملامح شخصية الثورى المجهول عبر التاريخ المصرى ويخلص الى ان المصريين القدماء هم اول من ابتكر مفهوم الثورة تماما كما انهم اول شعب فى العالم يبتكر مفهوم "الدولة-الأمة" وهو مفهوم حاضر بقوة حتى الآن فى النظرية السياسية للدولة عبر العالم كله. ولعل مجلة نيويوركر كانت تتلمس طريقا للوصول لهذا الثورى المجهول عندما تحدثت بصورة مستفيضة عن وجوه مصرية مجهولة فى الاعلام ومضت تحاور بعض اصحاب هذه الوجوه وكأنها تبحث عن الثورى المجهول لتكتشف انه شعب مصر الذى شارك عن بكرة ابيه فى الثورة ليسقط نظاما بات محل رفض شعبى. وحسب توصيف السيد ياسين فان المشهد السياسي الراهن في مصر يزخر بصراع عنيف بين القوى الليبرالية التي تعبر عن انبل مافي ثورة 25 يناير وموجتها الثانية في 30 يونيو والقوى الرجعية المتخلفة من شراذم جماعة الاخوان التي تمارس ترويع الشعب ومحاولة تعطيل مسيرة خارطة الطريق. واضاف ان ملامح المجتمع المصري بعد الثورة الشعبية تتضمن ايضا اصرار الجماهير على المشاركة الفعالة في عملية صنع القرار والرقابة على تنفيذه غير انه رصد ايضا ظاهرة مايعرف "بالناشطين السياسيين" الذين تعددت ائتلافاتهم وتزايدت المنافسة بينهم حول الظهور الاعلامي المكثف وضمت انماطا متعددة من البشر من الصعوبة بمكان تحديد هويتهم السياسية حتى اصبحت " صفة الناشط السياسي مهنة من لامهنة له"!. وواقع الحال ان باحثا في قامة وقيمة السيد ياسين قد التفت منذ وقت مبكر لخطورة السلوك السياسي "لهؤلاء الناشطين" عندما لفت في مقالة نشرت في منتصف عام 2011 بعنوان "بيان من اجل حماية الثورة" للشكوك والشبهات التي تحيط بتوجهات هذه العناصر وغوغائية شعاراتها حتى ان بعضها "تحولت عن قصد لجماعات تخريبية تسعى الى هدم الدولة". ومن الأهمية بمكان كما لاحظ السيد ياسين الاشارة الى ان هذه العناصر ليست كلها من الشباب ففيهم من الشيوخ او كبار السن من يعمد بدون اي شعور بالحس الوطني او المسؤولية السياسية "لنفاق شباب الناشطين وتأييد تحركاتهم الفوضوية حتى لو كان في ذلك هدم للدولة وتفكيك للمجتمع". وكانت مجلة نيويوركر الأمريكية قد حق لها ان تلاحظ مبكرا غياب حزب قوى او تنظيم متماسك وقادر على التنافس بندية فى الساحة السياسية ويعبر بصدق عن هذه الحشود الجماهيرية التى شاركت فى الثورة وخاصة فيما يتعلق بالشباب. ونبهت "النيويوركر" لحقيقة هامة الا وهى ان الكثير من عناصر النخب التى تحاول الآن ان تتحدث باسم الثورة كانت قد نأت بنفسها فى مستهل ثورة يناير ولحظاتها الأكثر دقة عن الحشود او "اصحاب الوجوه المجهولة اعلاميا" التى نزلت الشوارع ودفعت الثمن بالدم وركبت المخاطر المتعددة . وواقع الحال ان معلقين ومحللين فى وسائل اعلام غربية ادركوا مبكرا الحقيقة المتمثلة فى ان شعب مصر سبق بفعله الثورى الكثير ممن ينتسبون او ينسبون انفسهم لما يسمى بالنخب كما ان الثورة الشعبية المصرية اثبتت خطأ الكثير من الأراء والتحليلات التى ادعى اصحابها ان المصريين ليس بمقدورهم الثورة على النظام القائم. ومن هنا تكاد وسائل الاعلام تتسابق مع مراكز الدراسات والأبحاث فى الغرب على محاولة تحديد ملامح هذا "الثورى المجهول" الذى سبق اولئك الذين ينتسبون لما يسمى بالنخب كما انه برهن على انه اعمق وعيا وقدرة على صنع ثورته التى يحاول البعض خطفها او التحدث عنوة باسمها. وتسعى وسائل الاعلام ومراكز الدراسات والأبحاث الغربية لاستكشاف مايمكن وصفه "بالمياه الجوفية وآبار الغضب" لهذا الثورى المجهول الذى يعبر فى الواقع عن السواد الأعظم من شعب مصر والذى اخذ بثورته بموجتيها الكثير من المنتمين للنخب على غرة. وهكذا يعود بعض الباحثين فى الغرب الى عيون الأدب المصرى والأقلام المعبرة عن وجدان مصر وضمير شعبها وخاصة الأديب الراحل نجيب محفوظ صاحب المقولة الاستشرافية التى اكد فيها على ان الأحوال تنصلح عندما يعرف الناس ان عاقبة الجبن اوخم من عاقبة الشجاعة. ويتفق العديد من المحللين والمعلقين فى الغرب على ان استشراء الفساد كان احد اهم دوافع ثورة 25 يناير وخاصة بعد تكريس ظاهرة تزاوج السلطة والثروة الأمر الذى حدا "بالثورى المجهول للتحرك واسقاط النظام قبل ان تتحول هذه الزيجة الحرام الى زواج علنى تضفى عليه شرعية عبر مشروع التوريث" فيما تحرك هذا الثوري المجهول للمرة الثانية في 30 يونيو الماضي ليسقط حكم جماعة ارادت تفكيك الوطن واستعباد المصريين وهي تتاجر بشعارات دينية . واذا كان الثورى المجهول هو شعب مصر فى سواده الأعظم فان هذا الثورى المجهول او صوت الملايين هو الذى خرج ليصنع مشهد الاستفتاء العظيم وهو ذاته الرجل القوى الخطير الذى يراقب عن كثب ودون ضجيج افعال واقوال من ينتسبون للنخب السياسية والمقياس عنده والحساب سيكون مصلحة مصر ونهضتها . وربما يستدعى هذا السياق طرح السؤال :"هل تفشل العناصر التى تنتسب لما يسمى بالنخب فى تقدير حقيقة مواقف ومشاعر ومطالب هذا الثورى المجهول فى المرحلة الراهنة كما فشلت تقديراتها وتوقعاتها قبل ان يبادر ويتحرك ويقوم بثورته في موجتي يناير ويونيو"؟!. لعل الثورى المجهول يشعر بالأسى ان لم يكن بالغضب بعد ان هانت ارض الكنانة على شراذم تعبر عن الطفولة او المراهقة الثورية فتصورت فى ضباب اوهامها ان مصر الخالدة يمكن ان تتحول الى مختبر لأفكار فوضوية سبق وان طرحت ومنيت بفشل ذريع على ارض الواقع فى اوروبا ابان القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين!. ويرتسم الألم على ملامح الثورى المجهول بطل الثورة بموجتي 25 يناير و30 يونيو وهو يرى البعض قد تخلى حتى عن قناع الحياء فراح يتحدث عن امكانية اسقاط الدولة فيما غاب عن هذا الطرف فى سديم ضلالات الجهل ان مصر هى اقدم دولة فى التاريخ وان الأنظمة تسقط او تتغير لكن الدولة باقية لأنها نتاج عرق ودماء ودموع وتضحيات اجيال تلو اجيال من المصريين كما ان الدولة تاريخيا هى التى تحفظ الوطن. واذا كان البعض يستخف او يتظاهر بالاستخفاف بحديث المؤامرات الأجنبية ويعتبرها نوعا من التخويف فالثورى المجهول يعلم تماما ان هذه المؤامرات لم ولن تتوقف بل ربما تزداد لأن هناك من القوى الخارجية من يهمه بحكم المصالح الحيلولة دون نجاح الثورة تماما كما ان حالة التشويش المكثفة التى يمارسها البعض فى الداخل عن عمد لاهدار الطاقات تستهدف الأهداف الحقيقية لثورة يناير-يونيو والدفع بالوطن نحو حافة الهاوية عبر الحيلولة دون تنفيذ خارطة الطريق. وهاهو الباحث شايماس ميلن يستعيد فى دراسة المخططات الاستعمارية المستمرة للسيطرة على منطقة الشرق الأوسط ويستعين بأرشيف ثرى معتبرا ان على العرب فى سياق ربيعهم الثورى الاستفادة من دروس التاريخ وتجاربهم المريرة مع الغرب الذى لايكل ولايمل فى مساعيه لاحكام سيطرته على المنطقة مستخدما كل انواع الأسلحة بما فيها التقسيمات الطائفية والعرقية. ووسط لغة مفتعلة من المزايدات الممجوجة والتجريح الممقوت والتخوين المرفوض-لابد وان يتصدى "الثورى المجهول" ابن "الجندى المجهول" الذى عبر قناة السويس وهزم الهزيمة ورفع اغلى علم فى السادس من اكتوبر عام 1973 لمحاولات اثمة لاحداث تصدع فى بنيان الجماعة الوطنية المصرية وبث الوقيعة بين الشعب وجيش الشعب ناهيك عن اصوات فائض الشر التى تثير صراعات على الهوية المصرية الجامعة والراسخة. كيف للثورى المجهول ان يقبل محاولات خبيثة لاحداث قطيعة بين موجتي ثورة واحدة في 25 يناير 2011 و30 يونيو 2013 وقبل ذلك مع ثورة يوليو 1952 وهو بحكم الدم والنسب والانتماء والتاريخ ابن كل هذه الثورات التى تشكل حلقات مجد فى سلسلة متصلة من نضال شعب عظيم لم يتخل يوما عن حلمه الكبير والمشروع فى دولة الحرية والكرامة والعدالة؟!. لاتنطلى الأكاذيب على الثورى المجهول ولايستطيع احد ان يخدعه فهو آلام الوطن وانتصاراته وثورته وهو العازم على كسر شوكة البلطجة ويريد الحسم مع البلطجية حتى لايجترىء احد على حرمات مصر وروح ثورتها او تتحول ممارسات البلطجة الى حدث عادى وهو لايصدق ان مصريين يمكن ان يحرقوا رموزا حضارية عزيزة فى شوارع المحروسة التى يحفظ تضاريسها عن ظهر قلب. ولئن كانت ثورة يناير-يونيو قد منحت المزيد من المعانى للمفهوم العالمى للثورة السلمية وشكلت اضافة جوهرية على هذا الصعيد بفضل الثورى المجهول او ملايين المصريين الذين ميزوا بسهولة بين الثورة والفوضى فهاهى وسائل الاعلام الغربية تنوه باجراءات الاستفتاء على الدستور الجديد واقبال الناخبين على اللجان الانتخابية بما يعكس مدى تحضر شعب مصر وجدارته بأن ينعم بالديمقراطية ويمارس بانضباط قواعد اللعبة الديمقراطية. يدرك الثورى المجهول انه لايوجد غالب او مغلوب عندما يتعلق الأمر بمواطنين يعيشون معا على ارض الكنانة كما انه يشعر بالشفقة احيانا على ثورة شعبه بعد ان تحولت اصوات تنسب نفسها للثورة الى عبء على هذه الثورة فى خضم البحث عن مكاسب شخصية او الجرى خلف سراب نجومية متوهمة بقدر مايشعر بالألم ويستبد به الضيق عندما يخلط بعض البسطاء بين تلك الأصوات وبين ثورة يناير-يونيو ذاتها وهى ثورة شعب بأكمله. وكلما توافقت السبل والآليات مع مقاصد وغايات ثورة يناير-يونيو وفى مقدمتها العدالة والحرية والكرامة شعر الثورى المجهول بالارتياح وعيناه على يوم يقترب ايذانا بالاعلان عن الانتهاء من تشكيل المؤسسات المنتخبة والمعبرة عن ارادة شعب مصر. وكما قال الباحث المرموق السيد ياسين :" لقد بدأت مسيرة الديمقراطية الحقيقية في مصر المحروسة وسيلفظ الشعب من بين صفوفه الرجعيين والخونة وسيعطي الصدارة للثوريين الحقيقيين"..فليحذر اعداء مصر والمتاجرين بآلامها غضبة الثورى المجهول الذى لم يفهم الصعوبة عند البعض فى قول الحقيقة فيما يدرس الباحثون فى المراكز الكبرى بالغرب الآن تجربته الفذة فى تحويل آبار الغضب الى ثورة شعب ومن احتمال هدم الى يقين الرغبة الجياشة فى البناء والتقدم. وقر فى ضمير الثورى المجهول ووجدانه وذاكرته التى هى ذاكرة الوطن ان ثورة يناير-يونيو تنشد نظاما قادرا على الاستجابة لتحديات العصر واشواق الجماهير وتتجاوب مع رهانات التقدم وتدرك بسلامة فطرة الذين قاموا بها ان العصر لايسمح بتكرار اخطاء وفوضى ودماء سالت فى ثورات مضت عبر التاريخ خلافا لما يردده البعض من الاستشهاد بثورات كبرى كان لها سياقها التاريخى المختلف بحكم اختلاف الزمان مثل الثورة الفرنسية فى محاولة لتسويغ الفوضى . وبعيدا عن صخب الفضائيات التلفزيونية ستجد الثورى المجهول وتشعر بفعله فهو فى كل مكان على ارض مصر..يعرف الحقيقة فى الأيام الملتبسة ولايختلق بطولات ويصنع وحده اللحظات الحاسمة والمنعطفات المصيرية دون وجل او تردد او التباس. لاالريح تلويه ولا الأعاصير وهو واثق الخطى تحت العلم يعرف لمن القرار ومقتنع كل الاقتناع بأن القرار للشعب وليس ولاينبغى ان يكون لقلة من أصحاب الأصوات العالية والتنظيرات المتعسفة..مستعد لأن يسامح كثيرا لكنه لايسامح ابدا من يتعاون مع اعداء مصر او يمنحهم صكوك غفران فقد قرر بحزم انه لن يعيش الا فى الزمن المصرى. سلام على الثورى المجهول اينما كان على ارض الكنانة..سلام على مصر وسلام على شعب بدأ عامه بمشهد الاستفتاء العظيم ليبهر العالم مجددا ويمضي واثق الخطى رغم جسامة التحديات لكتابة المجد في عام المصير.