يقول الفارابي: "إن معرفة الحقائق القصوى كلها مصدرها الله، لكن فرق بين حقائق النبي وحقائق الفيلسوف، فالفيلسوف يتلقى الحقائق بواسطة العقل الفعال فتكون طبيعتها عقليه وليس حسية، الرسول تأتيه المعارف منزلة من عند الله بتوسط الملك جبريل عليه السلام، ويتلقى الوحي بالمخيلة ثم يتم تحويل الصور المتخيلة إلى صور ومعاني تنقل للناس. المعارف النبوية هي معارف المخيلة أساس فيها". هو أبو نصر محمد بن محمد بن طرخان الفارابي ولد عام 260 ه/874 م في فاراب في بلاد ما وراء النهر وتقع فاراب اليوم في كازاخستان وتوفي عام 339 ه/950 م، أطلق عليه المعلم الثاني لإتقانه علوم الحكمة كما برع في علوم الرياضة. وكما يقول المؤرخون والفلاسفة: إنه أول فيلسوف مسلم عالج قضية النبوة وكون نظريتها وتعد نظريته أهم محاولة للتوفيق بين الدين والفلسفة. وتعود أهمية محاولته هذه لأنها وصلت دعائم علم النفس وما وراء الطبيعة بالسياسة والأخلاق كما أكد على ذلك الدكتور إبراهيم مدكور حيث يقول: "كان الفلاسفة المسلمون حريصين على التوفيق بين الفلسفة والدين فأرادوا تفسير المعاني الدينية تفسيرا علميا.. وقد كان فلاسفة الإسلام حريصين كل الحرص على أن يوفقوا بين الفلسفة والدين بين العقل والنقل بين لغة الأرض ولغة السماء ولهذا لم يفتهم أن يشرحوا لغة السماء ويوضحوا كيفية وصولها إلى سكان العالم الأرضي" ويستطرد قائلا: "والفارابي هو أول من ذهب إليها وفصل القول فيها بحيث لم يدع فيها زيادة لخلفائه فلاسفة الإسلام الآخرين" وربما يعود التركيز على هذه القضية إلى مدى أهمية الفيلسوف - في نظر الفارابي – في عملية بناء المدينة الفاضلة. فمجرد قرن النبي بالفيلسوف يوحي بقيمة الفيلسوف رئيسا لهذه المدينة. ويعد الفارابي مؤسسا لنظرية النبوة لا فلسفيا فحسب بل وكذلك سيكولوجيا، لأن الفارابي يفسر النبوة تفسيرا سيكولوجيا ويعدها وسيلة من وسائل الاتصال بين عالم الأرض وعالم السماء. ويشرح الفارابي عملية تلقي الوحي من النبي عن الله بواسطة جبريل على النحو التالي مفرقا بين ما يتلقاه النبي وما يتلقاه الفيلسوف فيقول: ".. فيكون الله عز وجل يوحي إليه بتوسط العقل الفعال. فيكون ما يفيض من الله تبارك وتعالى إلى العقل الفعال يفيضه العقل الفعال إلى عقله المنفعل بتوسط العقل المستفاد ثم إلى قوته المتخيلة فيكون بما يفيض منه إلى عقله المنفعل حكيما فيلسوفا ومتعقلا على التمام وبما يفيض منه إلى قوته المتخيلة نبيا منذرا بما سيكون ومخبرا بما هو الآن من الجزئيات". ومقولة المخيلة من الابتداع الذي أوجده الفارابي وتعد فكرة مركزية في نظرية النبوة عند الفارابي لذا لزم تخصيصها بمزيد من التقصي، ويمكن أن نلحظ لدى تتبعنا لموضوع تلقي الوحي مصطلحات يدور حولها الموضوع: وهي العقول ومنها الفعال والمنفعل والمستفاد والقوى ومنها المخيلة التي من ضمن القوى التي تؤثر في الإنسان. لذا لا بد من الإحاطة بمعاني هذه المصطلحات قبل تشخيص عملية التلقي. ونلحظ هنا كيف ان الفارابي يؤسس لأفكاره ضمن بناء محكم وفلسفة شاملة، ولكي نفهم فكرة المتخيلة لا بد من وضعها ضمن تصنيفات القوى عند الفارابي: فالإنسان عند الفارابي ذو قوى لها تأثير وفق نوعها فيقول: "وللإنسان من جملة الحيوان خواص بان له نفسا يظهر منها قوى بها تفعل أفعالها بالآلات الجسمانية وله زيادة بأن يفعل لا بآلة جسمانية وتلك قوة العقل. ومن تلك القوى الغاذية والمربية والمولدة ولكل واحدة من هذه قوة تخدمها. ومن قواها المدركة القوى الظاهرة والأحساس الباطن: المتخيلة والوهم والذاكرة والمفكرة والقوى المحركة الشهوانية والغضبية والتي تحرك الأعضاء وكل واحدة من هذه التي ذكرناها بآلة... ومن هذه القوى العقل العملي" ويعرف الفارابي القوة المتخيلة:وهي التي تحفظ رسوم المحسوسات بعد غيبتها عن الحس وتركب بعضها إلى بعض وتفصل بعضها عن بعض في اليقظة والنوم تركيبات وتفصيلات بعضها صادق وبعضها كاذب ولها مع ذلك إدراك النافع والضار واللذيذ والمؤذي دون الجميل والقبيح من الأفعال والأخلاق. وهي من القوى المدركة والتي منها القوى الحساسة والقوة المتخيلة والقوة الناطقة، فالقوى الحساسة منها قوى الحواس الخارجية وهي الحواس الخمس ومنها الحس الباطن وهو يدرك ما لا تدركه الحواس الخارجية: يقول الفارابي: عن الإدراك في الحقيقة: "إنما هو للنفس وليس للحاسة ألا الإحساس بالشيء وليس للمحسوس ألا الانفعال "، أما القوة الناطقة: "فهي بها يحوز العلوم والصناعات وبها يميز بين الجميل والقبيح من الأفعال والأخلاق وبها يروي فيما ينبغي ان يفعل او لا يفعل ويدرك بها النافع والضار والملذ والمؤذي. والناطقة منها نظرية ومنها عملية. والعملية منها مهنية ومنها مروية. فالنظرية هي التي يجوز بها الإنسان علم ما ليس شأنه ان يعمله إنسان أصلا. والعملية هي التي بها يعرف ما شأنه أن يعمله الإنسان بإرادته " وتعمل القوة المتخيلة مع بقية القوى في استقبال الوحي الصادر عن العقل الفعال الذي يفيض على العقل المنفعل بواسطة العقل المستفاد.