يعتبر فن الضحك والسخرية من أهم ألوان الفنون التي أبدع فيها المصريون منذ عصر الفراعنة وحتى الآن؛ حيث عرف المصريون بين كافة الشعوب بخفة الدم وروح الدعابة، حتى صارت النكتة المصرية يُضرب بها المثل. ويحدثنا التاريخ على مر العصور عن نماذج هامة في فن السخرية في مصر، لا سيما السخرية السياسية. حيث سخر المصريون من بعض فراعنتهم وحكامهم، بتصويرهم على شقافات، تعتبر بحق هي رسائل احتجاج شعبية ضد الفرعون، ومن أشهر هذه الشقافات سخريتهم من الفرعون الضعيف الذي يدّعي القوة، بتصويره على هيئة فأر يركب العجلة الحربية، وتصوير الجنود حوله في أشكال حيوانات. وحتى في عصر الدولة الأيوبية، وسيادة دور العسكر؛ سخر الأدب الشعبي من حاكمه “,”قراقوش“,”، وجعله رمزًا للحاكم المستبد الذي أصبح مزحةً على ألسنة العامة. وفي زمن الثورات يروج أدب السخرية والفكاهة، لا سيما السخرية السياسية، فقد أخرجت لنا الثورة العرابية، رغم فشلها السياسي، رمزًا من أهم رموز السخرية السياسية في مصر وهو “,”عبد الله النديم“,”، الذي عُرف بخطيب الثورة، والذي اشتُهِر بين العامة بأنه “,”الأديب الأدباتي“,”. ويعتبر النديم بحق الأب الروحي لكل كُتّاب السخرية السياسية في مصر حتى الآن. ولا أدل على تلك المكانة من متابعة أعمال النديم، وعلى رأسها “,”التنكيت والتبكيت“,”، وأيضًا “,”المسامير“,”، هذه الأعمال التي تعتبر بحق قمة في الهجاء السياسي للحكام، وتعبر بحق عن التاريخ الشعبي في مواجهة التاريخ الرسمي الذي يكتبه مؤرخو السلطة. ومع ثورة 1919 عاد أدب السخرية من جديد ليفعل فعله في عقول وأفئدة الناس، وقد كان فن السخرية هو سلاح الشعب في مواجهة رصاص الإنجليز، ولنا في خطب وقفشات القمص سرجيوس خير مثال على ذلك. كما ألهمت روح الثورة بيرم التونسي بأشد أنواع الزجل هجاءً في الحكام المستبدين. ولعل قصيدته الشهيرة والمثيرة في زواج الملك فؤاد من الملكة نازلي خير دليل على ذلك. ولا ننسى في تلك الفترة “,”الضاحك الباكي“,” فكري أباظة، وكيف كان ينتظر الناس بشغف مقالاته الصحفية اللاذعة، أو حتى أحاديثه الإذاعية الساخرة بعد ذلك. وأنجبت لنا ثورة يوليو أحد كبار فن السخرية السياسية وهو “,”صلاح جاهين“,”، وربما نتذكر هنا أشعاره وأغانيه اللاذعة، ولكننا لا يمكن أن ننسى أبدًا ابتكاره لشخصية “,”درش“,”، والتي يعبر فيها عن ابن الطبقة الوسطى، والذي على لسانه يمرر جاهين الكثير من الانتقادات اللاذعة للحياة العامة في مصر. وإلى وقتٍ قريب كان يعيش بيننا “,”الولد الشقي“,” محمود السعدني، الذي أوسع الحكام نقدًا وسخرية، لكن السادات، الذي طاله من سهام السعدني الكثير، لم يملك في النهاية إلا الاعتراف بمقدرة السعدني اللاذعة، وحاول السادات تدجين الولد الشقي، ولكن هيهات. وما زلنا نحيا في رحاب “,”أبو النجوم“,” أحمد فؤاد نجم، الشاعر القادم من طين الأرض المصرية، “,”الفاجومي“,”، الذي أوسع جميع حكام مصر، من ناصر إلى السادات إلى مبارك، نقدًا وهجاءً، وما يزال يسير على الدرب حتى اليوم. من هذا التراث الطويل في أدب السخرية السياسية يخرج لنا حفيد النديم “,”باسم يوسف“,” مزودًا بسحر الفضائيات والقدرة على الانتشار الواسع والنضج التاريخي. ولكن هل سيكون مصير باسم يوسف مثل مصير أجداده من كبار النقاد الساخرين؟ ألم يُنفَ عبد الله النديم خارج مصر حيث دُفن جثمانه ولم يعد حتى الآن إليها؟ ألم يدفع بيرم التونسي ثمنًا باهظًا لفنه الساخر؛ حيث نفي لفترة طويلة خارج مصر؟! وعاش محمود السعدني سنوات طويلة في المنفى خارج الوطن. ترى هل سيعيد التاريخ نفسه؟ أم سينجح فن السخرية في عودة الروح للثورة المصرية؟!