إنه الدكتور عمار علي حسن، مؤسسة علمية كاملة تقوم في رجل واحد جمع بين علم الاجتماع السياسي - تخصصه العلمي الأول والأبرز - وبين الكتابة الصحفية، وبين الأدب من خلال الرواية والقصة القصيرة بل والشعر، ثم اتجه إلى النقد الأدبي ولا زالت إنتاجاته تتدفق، وما زال يثرينا بكتاباته الرصينة المنمقة والتي جمعت بين عمق الطرح العلمي وروعة الأسلوب الأدبي. بعد صدور مجموعته القصصية الأخيرة "التي هي أحزن"، آثرنا أن نجري معه حوارا يختص في معظمه بالجانب الأدبي والثقافي الذي كانت مهمتنا في قسم الثقافة أن نسلط عليه الضوء ليعرف الناس الدكتور عمار أديباً كما عرفوه محللاً سياسياً، فجاء هذا الحوار: * في روايتك شجرة العابد استلهمت روح الصوفية ورأى البعض أنك تطرح التصوف كحل وجودي لأزمات العالم الإنساني فهل يمكن للتصوف من وجهة نظرك أن يساهم بالفعل في مواجهة الارهاب والتطرف ويعمل على وجود عالم أكثر رقيا؟ - ابتداءً علينا أن نفرق بين التصوف الذي يعني العلاقة الخاصة جدا مع الذات الإلهية، وبين (الطرقية) التي حولت التصوف إلى تجربة اجتماعية احتفالية ذات بعد ديني، الأول هو حل من زاوية القيم التي ينطوي عليها وهي المحبة والزهد والتسامح وهي قيم تنقص الحركات الإسلامية المسيسة التي حولت الدين إلى أيديولوجيا ودعاية سياسية رخيصة فكان ذلك على حساب المقدس والجليل والروحي في الإسلام. * كان للصوفية تأثير واضح على الحياة الاجتماعية والسياسية في مصر.. لماذا لم يعد هذا التأثير قائما، وكيف ترى واقع الطرق الصوفية الآن؟ - الطرق الصوفية قديما كانت المسار الأبرز لا سيما في زمن المماليك والعثمانيين وربطها البعض وقتها بانتشار الفقر وطغيان الموروث الشعبي على التصورات الدينية، وكان الحكام منذ صلاح الدين يعتنون بالطرق الصوفية لكسب الشرعية ومواجهة أي خطاب ديني مناهض من زاوية ميل الحكام إلى الدين المستأنس الذي لا يطلب تغييرا ولا ينتصر للعدل والحرية وهما قيمتان أصيلتان في النص الديني السماوي، أما الآن فالطرق الصوفية متشرذمة وباهتة ومنسحبة تماماً أمام خطاب سلفي جامد وآخر إخواني مغرض، لكن بعد انكشاف أتباع هذا التيار بات الطريق مفتوحا للطرق الصوفية كي تعزز مسارها شريطة أن تنقي نفسها من الشوائب وتربح الرجال الذين يمتلكون روحا فياضة وعقلا خلاقا وقدرة على طرح تصورات تنقذ الناس من طغيان المادي في حياتهم وتجيب على أسئلة الواقع الاجتماعي. * يعرف عنك أنك متعدد الاهتمامات ولك في كل غنيمة سهم، بالنسبة للأدب هل لك أن تلخص لنا ملامح مشروعك الأدبي وما الذي قدمته في الأدب ولم تقدمه في الكتب والمقالات؟ - كتبت الأدب لأني من المؤمنين بأن العلم لا يجافي الجمال، وأن هناك وحدة بين العلوم الانسانية تجعلنا أمام علم إنساني واحد ذو فروع متعددة، كما أعتقد أن الأدب رغم أنه تشكيل جمالي للغة في شاعريته وصوره المفارقة وروعة خياله يحمل مضامين اجتماعية حتى في أكثر صوره فنيةً، وحتى الذين اعتمدوا على فهم النص من داخله مستبعدين تأثير السياق الاجتماعي عليه عادوا ليعترفوا بخطأهم، وها هو أحد أبرزهم الناقد الكبير (تيزفتيان تودورف) يكتب كتابه "الأدب في خطر" ليقر بأن كل المدارس النقدية التي تعاملت مع الأدب كنص فني خالص قد ظلمته وكل المبدعين الذين حاولوا تجنب التعانق بين الجمالي والنفسي من ناحية، وبين الاجتماعي والإنساني من ناحية أخرى قد جانبهم الصواب، ويكفي أن نقرأ نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ويوسف إدريس وبهاء طاهر ومحمد البساطي وخيري شلبي وإبراهيم أصلان وإبراهيم عبد المجيد وغيرهم لنبرهن على هذا، وحتى بعض مبدعي الجيل الجديد الذي نظر له إدوارد الخراط تحت عنوان الحساسية الجديدة لا تخلو أعمالهم من جوانب اجتماعية وإن أنكروا، وكل الأعمال المهمة التي حازت نوبل أو البوكر أو غيرهما من الجوائز الأدبية المرموقة كانت تحتوي مقولات عميقة تنتمي إلى ما نسميها بالسرديات الكبرى، وأنا حريص في كتابتي الأدبية على أن تكون البنية الجمالية للغة والتخيل حاضران بشدة وهي نوع من الكتابة يختلف في الأسلوب وليس في المضمون عما أكتب في دراساتي الاجتماعية والسياسية. وأستغرب أننا بعد قراءة طه حسين ولويس عوض نعود لنسأل أسئلة عن الفصل بين انتاج العلم وإبداع الأدب، لاسيما بعد أن أقبل باحثون وكتاب وعلماء على كتابة الرواية في العقد الأخير؛ فعبد الله العروي فيلسوف كبير وله رواياته وحليم بركات عالم اجتماع بارع وروائي مهم في الوقت نفسه وحتى أحلام مستغانمي الروائية الشهيرة هي أستاذة اجتماع وأدونيس الشاعر الفطحل باحث كبير في الوقت ذاته والدليل كتابه المؤسس (الثابت والمتحول)، وفي مصر أقبل قضاة وأطباء ومهندسون ومحاسبون وباحثون كثر على كتابة الرواية، لكن يبدو أن أولئك الذين لا يمتلكون القدرة على انتاج ألوان متعددة من الكتابة مصرون على هذا الفصل الحاد الذي يبررون به عجزهم.
* ألفت كتابين في النقد الأدبي، حدثنا عن هذه التجربة ما الذي دفعك إليها وما الجديد الذي أردت أن تطرحه من خلالها؟ - أسعى دائما ألا أكتفي بقراءة أعمال الآخرين وانما أيضا أتناولها نقديا وذلك تلبيةً لطلب بعض الصحف والدوريات الأدبية وكذلك الندوات. وفي كتابي "النص والسلطة والمجتمع: القيم السياسية في الرواية العربية" وهو أطروحتي للدكتوراه حاولت أن أبحث عن قيم الحرية والعدالة والمساواة في الرواية السياسية العربية من خلال نماذج اخترتها بعناية وفق معايير محددة متأثرا بما ورد من مضامين عميقة في علم اجتماع الأدب وعلم اجتماع الرواية. أما كتابي " بهجة الحكايا: على خطى نجيب محفوظ" فقد وضعت فيه بعض تصوراتي عن أدب نجيب محفوظ إلى جانب ما كتبته من مقالات نقدية عن بعض الأعمال الروائية والقصصية التي ظهرت في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين متتبعاً منهجاً يمزج بين قراءة النص من داخله دلاليا ومن خارجه عبر رصد وتحليل تأثير السياق الاجتماعي عليه. * كتبت رواية سقوط الصمت عن ثورة يناير، فهل كنت تحتاج إلى وقت أطول للتأمل قبل أن تكتب عن حدث لم يكتمل؟ - خفت أن تضيع مني طزاجة الحدث ويفتر انفعالي به بمرور السنين وتسقط من ذاكرتي بعض مشاهده الإنسانية المشهودة، فأردت من خلال رواية سقوط الصمت أن أجسد البطولة الجماعية والجوانب النفسية والجمالية التي لا يلتفت إليها المحللون السياسيون والمؤرخون لا سيما أنني كنت في قلب الحدث وتفاعلت معه وتماهيت فيه بشكل كامل، ورغم أنني كتبت التجربة الذاتية فقط في كتابي "عشت ما جرى.. شهادة على ثورة يناير" فإنني أردت في الرواية أن أسجل بشكل جمالي ما عاشه الآخرون. * ذكرت أن الأدب وإن كان لا يصنع الثورة ولكنه يلعب دورا في التغيير السياسي، فإلى أي مدى ساهم الأدب - في نقد الواقع الاجتماعي وتحريك المياه الراكدة قبل ثورة يناير؟ أنا أعتقد أن الأدب برسمه ملامح عالم موازي أو متخيل وانتصاره للحرية الفردية وفضحه للقبح الناجم عن الفساد والاستبداد ساهم في تعميق الوعي وهذا يشكل مقدمة ضرورية لأي رغبة في التغيير، ربما كان دور الأدب في ذلك غير مباشر ولكنه عميق وأصيل. * كيف يرى الأديب عمار علي حسن أسباب انتحار جماعة الإخوان؟ - من زاوية الأديب أستطيع القول إن أحد الأسباب الأساسية لإفلاس الاخوان وانتحارهم هو افتقادهم للخيال الذي يملكه الأدباء؛ ففضلاً عن أن المشروع الإخواني لم ينتج لمصر أديبا بارزا فإن طريقة التربية داخل الجماعة تقتل القدرة على الابداع والتخيل وتصنع أنماطا بشرية أشبه بما ينتجه مصنع الصابون، وأتصور أن ما يملكه الأدب من مسائلة وما يخلقه من عقل نقدي واشباع وجداني هو ما يفتقده مشروع الإسلام السياسي كله ويبعده عن الإنسانية ويلقيه في جب الجمود والنمطية والتجهم وهذا ما يصيب الفكر الإخواني والسلفي أيضاً في مقتل. * يعتقد البعض أن المثقفين الآن لا يقومون بدورهم الطليعي في قيادة المجتمع وأنهم كغيرهم يتأثرون بما يجري وكل فعلهم هو في الحقيقة رد فعل فهل تتفق مع هذا الطرح؟ - المثقف الحقيقي هو الذي يمشي أمام السلطان ليقوده ويرشده وليس خلفه ليبرر له ويحميه ولا حتى إلى جانبه ليقول ليس في الإمكان أبدع مما كان، والمثقف منحاز إلى الناس يحمل أشواقهم الدائمة إلى التقدم والحرية والعدل، وهو معارض بطبعه ليس حباً في المعارضة، وانما لأنه يجب أن يتمسك بالأفضل والأمثل لمجتمعه وبالتالي تتحول الثقافة إلى قاطرة تسير إلى الأمام، وهذه الخصال افتقدها أغلب المثقفين المصريين لا سيما في العقود الأخيرة فخسروا دورهم وتضاءلت ثقة الناس فيهم، ولا خروج من مأزقنا الراهن إلا بعودة المثقف ليؤدي دوره ويملأ الفراغ الذي تمدد فيه فكر يدعو إلى الجهل والجمود والصراع. * نحن مجتمع مضرب عن القراءة، في رأيك كيف يمكن أن نجعل رجل الشارع العادي يقبل على القراءة ويحترم المثقفين؟ - يجب ابتداءً أن نستغل المدارس للتحريض على القراءة الحرة وأن نحل مشكلة توزيع الكتاب التي تعيش معنا منذ الأربعينات حسبما طرح توفيق الحكيم في كتابه "البرج العاجي" وهذه مسئولية وزارة الثقافة ومؤسسات المجتمع المدني ودور النشر الخاصة والمؤسسات الصحفية الكبرى، ويجب على هذه الجهات جميعا أن تتعاون في إطلاق قوافل تجوب المدن والقرى ليصل الكتاب إلى كل دار، وعلى موظفي وزارة الثقافة لا سيما العاملين في أكثر من 500 قصر ثقافة في مصر أن ينزلوا بالكتاب إلى الناس، ويجب على الكتاب أن يخرجوا من العاصمة إلى الأقاليم ومن القلب إلى الأطراف فلا يزال لدينا ملايين يمكن أن تدمن القراءة المستديمة شرط أن نصل إليهم.