«البديل الذى ينتج عن المظاهر الخداعة «العصرية» (النقل المباشر أو اللايف) يحلّ محلّ ما ينوب عنه وينفيه، وذلك بحكم قدرته على التصفية والتأويل الإنجازيين وترك «المفعول» ذاته الذى تتركه الحقائق المطلقة والتى لا مجال للشك فيها بحيث إنها لا تحيل إلى شيء آخر غير ذلك الذى تنوب عنه، وهذا يمثل بلاشك الموضع الذى يشغله الكذب المطلق». ج. دريدا، تاريخ الكذب ينبهنا جاك دريدا فى كتيّبه عن «تاريخ الكذب» إلى أنه لم يعد يكفينا أن نتساءل: ما هو الكذب؟ وإنما ما الذى يقوم به فعل الكذب؟ وما الذى يرمى إليه؟ إذ «لا يمكن اعتبار الكذب على أنه حدث أو حالة، بل هو فعل مقصود». ليس الكذب مجرد قول محرّف، وإنما هو قول فاعل، و«فعل إنجازي» لا يبدّل الخطاب، ولا يحرّف المعانى فحسب، وإنما يحوّل الواقع ذاته، ولا يتوقف مفعوله عند مضمون القول. الكذب إخراج القول إلى الفعل، أو على الأقل، رغبة فى ذلك. وهو فعل واع بذاته مدرك لمراميه. إذ يتوجب على الكاذب أن يكون على علم بما يعمل، وأن يرمى من كذبه إلى القيام بفعل، وإلا فهو لا يكذب. يتبنى دريدا التمييز الذى يقيمه القديس أوغسطين بين الكذب وبين مجرد الوقوع فى الغلط، وذلك بتأكيده، هو كذلك، على النية والقصد فى فعل الكذب. فالكذب هو الرغبة فى خداع الغير، حتى وإن اقتضى الأمر، فى بعض الأحيان، قول الحقيقة. فليس من قبيل الكذب أن يصدر عنا الغلط إذا ما كنا نظن أنه صواب، ليس الكذب هو القول الخاطئ، ليس هو الخطأ، الكذب خداع قبل كل شيء، إنه حمل على الاعتقاد. نقرأ فى الكتاب: «الكذب على الآخرين يتضمن الرغبة فى خداعهم وذلك حتى إن كانت أقوالنا حقا، والحال أنه بإمكاننا أن ننطق بأقوال خاطئة دون أن نكون كاذبين، وأن نقول أقوالا حقة الهدف منها خداع الآخرين، آنذاك نكون كاذبين». يمكن أن يصدر عنا قول خاطئ من غير أن نكذب. لكن بإمكاننا أن نقول الحقيقة بهدف الخداع، أى الكذب. يحكى فرويد قصة اليهوديين اللذيْن التقيا فى قطار، فسأل أحدهما الآخر عن البلدة التى يتوجه نحوها. أجاب الثاني: «أنا متجه إلى كراكوفيا». رد الأول متعجبا: «يالك من كذّاب، إذا كنت تقول إنك ذاهب إلى كراكوفيا، فلأنك تريد أن أعتقد أنك ذاهب إلى لومبيرغ، لكن أنا أعرف أنك ذاهب حقا إلى كراكوفيا». ما يمكن أن نستخلصه من هذه الحكاية التى يرويها مؤسس التحليل النفسي، هو أن المسألة قد لا تتعلق بسوء نية مبيتة عند الكاذب. ذلك أن سوء التفاهم والشعور بنية الخداع والكذب، ربما يتولدان من غير سوء نية. وفرويد يؤكد أن المسافر الأول كان بالفعل متوجها إلى كراكوفيا، ولم يكن قطّ سيئ النية. ربما تُعيننا على تبيّن مغزى هذه الحكاية فكرة عميقة يستلهمها دريدا من مقال كان ألكسندر كوييرى كتبه تحت عنوان «الوظيفة السياسية للكذب الخاص بعصرنا الراهن»، يطلق عليها الانحراف – المفارقة: وهي، كما يصفها كوييري، «تقنية ميكيافيلية بامتياز»، وفن كان هتلر يُتقنه على مستوى عال، وذلك بقوله الحقيقة مع علمه أن لا أحد من بين الجاهليين بالرموز المستعملة سيحمل أقواله محمل الجدّ، أى أن الأمر يتعلق بنوع من «التآمر فى واضحة النهار»، والذى كثيرا ما اعتبرته ح. آرندت بمثابة الصورة المجسدة للكذب الخاص بعصرنا الحالي، ويمكن تحديده كالتالي: النطق بالحقيقة بهدف خداع أولئك الذين يعتقدون بأنه ليس عليهم تصديقها. يتضح لنا قصور أخلاق النية عن التنظير للكذب إن نحن أخذنا بعين الاعتبار ما آلت إليه آليات الخداع فى مجتمعاتنا المعاصرة. لا أشير هنا فحسب إلى ما تتحدث عنه آرندت عندما تكشف عما قامت به مختلف التوتاليتاريات من تزوير للحقائق وغرس للكذب فى العقول والمكر بالتاريخ نفسه، وإنما إلى الأكاذيب التى «أصبحت تعتبر أدوات ضرورية ومشروعة» فى خدمة كل الفاعلين السياسيين مهما كانت الأنظمة التى يعملون فى حضنها، فتمكّنهم من تأويل الحدث نفسه بحسب ما تمليه مقتضيات الراهن ومتطلبات اللحظة. ما أبعدنا إذًا عن الطرح الأخلاقى الذى يشترط معرفة النوايا. إن الشكل الذى أصبح الكذب يتخذه اليوم، جعله يتجاوز الفرد والأخلاق ليطال الجماعة والسياسة فيعْلق بالتاريخ. فلم يعد الكذب السياسي، كما كتبت آرندت، «تسترا يحجب الحقيقة، وإنما غدا قضاء مبرما على الواقع، وإتلافا فعليا لوثائقه ومستنداته الأصلية». لم يعد الكذب إذن إخفاءً للحقيقة، وإنما صار إتلافا لها، لم يعد مكرا تاريخيا، وإنما غدا مكرا بالتاريخ. لا يخفى الدور الذى تلعبه وسائل الإعلام فى هذا الحفظ والإتلاف، وبالتالى فى تحديد الكذب السياسى وتحليله. كتب دريدا: «من المحقق أن وسائل الإعلام، من حيث إنها تشكل الموضع الذى يُجمع فيه ويُنتج الخطاب العمومى وتُودع كذلك الأرشيفات الحافظة له، تلعب دورا حاسما فى تحليل الكذب السياسي، وكل معالم التزوير التى يشهدها فضاء الشأن العام». لا يكتفى دريدا بهذه الإشارة، بل يأخذ بعين الاعتبار، مع حنة آرندت، «لا تطور وسائل الإعلام فحسب، بل وكذلك البنية الإعلامية الجديدة، التى أفضت إلى تحوّل فى حكم البديل الأيقونى والصورة والفضاء العمومي». من هنا ندرك الدور الذى أصبحت تقوم به وسائط الإعلام، والدعاية الرسمية وغير الرسمية من تلوين للأحداث التاريخية وفق ما تتطلبه الحاجة، وما تستدعيه الظرفية. فمقابل محدودية الكذب الذى كانت تمارسه القنوات الدبلوماسية التى كانت تراعى سرية العمليات وتلوينات الخداع، فإن الكذب يمارس اليوم على مرأى ومسمع من الجميع، وبصدد أحداث ربما لا تخفى «حقيقتها» على أحد. وهنا يؤكد دريدا، مع آرندت، الدور الذى أصبحت تلعبه الصورة فى إضفاء طابع «المصداقية» على عمليات الكذب هذه. وهو يسوق هذا الاقتباس لآرندت: «الصورة هى الكلمة المفتاح أو المفهوم الأساس لكل التحليلات المتعلقة بالكذب السياسي، كما يمارس فى عصرنا الحالي (صور مصطنعة، صور كاذبة، صور للدعاية) ». فى هذا السياق تُبيّن ح. آرندت كيف أن عصر الصورة يُصاحب بهوس الالتصاق بالواقع المباشر واكتساب ما يمكن أن نطلق عليه المصداقية ذات الأصل الاختباري: «فكما لو أن إنسان عصر الصورة، الذى يقدّس الشفافية، قد تخلى عن كل مثل أعلى قد يكون بالنسبة إليه مصدر ردع وإكراه، فانطوى على نفسه بعيدا عن أيّ انفتاح على الخارج، وصار مكتفيا بعالمه الضيّق، ملتصقا بالمألوف الذى يعجّ بتمثلات تلتصق أشد الالتصاق بالواقع المباشر». إلا أن دريدا يأخذ هنا على آرندت كونها «لم تذهب بعيدا فى تحليلها للتحولات التى طرأت على الأيقونة. فالأمر يتعلق هنا بالتحول الذى شهده حكم البديل، والذى أصبح الاتجاه العام هو الميل إلى تقديمه والدفاع عنه ليس على أنه مجرد ممثل، أى بالضبط نائب - بديل - ممثل - محيل، ولكن على أنه «الشيء نفسه»، والذى يأتى أثناء المشاهدة ليحلّ محلّ الشيء نفسه. لقد طرأت على الأيقونات تحولات ذات طابع تقني، «فلم تعد مجرد مظهر خداع للشيء، بل أصبحت الشيء نفسه، أى أنها لم تعد تكتفى بتمثيله، بل صارت تحل محله وذلك بنقضه. وهكذا تصبح - فى الآن ذاته - الأرشيف الوحيد الذى يحفظ الحدث، والحدث المحفوظ نفسه». لعل هذا هو ما أصبح يشكل فى حياتنا المعاصرة نوعًا من الكذب «السلمي» «الديمقراطي»، «الكذب الظريف» الذى لا يبدو أنه محتاج إلى «إتلاف وثائق ومستندات»، ولا حتى إلى قضاء مبرم على الواقع، وإنما صار يكتفى بتفتيت الأحداث وحلّها إلى وقائع جزئية تغيّب معناها وتذيب دلالاتها. فكأن الكذب لم يعد إتلافًا للحقيقة، وإنما أصبح إتلافا للمعنى. ذلك أننا لم نعد اليوم عاجزين عن تصديق ما يقع أو تكذيبه، وإنما أصبحنا عاجزين عن «فهمه» واستيعابه. هذا بالضبط هو الشكل الجديد للكذب الذى أصبحنا نعيشه، والذى تكرّسه وسائل الإعلام الحديثة التى تجعل البديل يحل محل «الشيء نفسه»، فتعمل على تغييب الواقع، وتلاحق تطوّر الأحداث لتجعل منها راهنًا دائمًا، ووقائع جزئية لا تنفك تتلاحق، وتجعلنا عاجزين، لا عن تمييز الصدق من الكذب فحسب، وإنما حتى عن تمييز البدائل عن الأشياء، وتبيّن الدلالات، وإدراك المعاني. ******* هذا النص فصل من كتاب " "جرح الكائن"، الذى صدر مؤخرا عن دار توبقال