اعتاد الراحل الكبير صلاح عيسى، أن يدمج التاريخ فى الحكاية، يربطهما بخيط من الصحافة، ويحكم الرباط بمزيد من التوثيق، ينقل كل هذا إلى دفتى كتاب فى النهاية، ليستمتع قارئُه بنموذج فريد من الحكى الذى يجمع بين الفكر والصحافة والأدب. تنوعت كتابات «عيسى»، التى بلغت أكثر من عشرين كتابًا، فى التاريخ والفكر السياسى والاجتماعى والأدب، لكنها دومًا كانت مرتبطة بالهم الذى يحمله منذ اتجه عام 1962 للكتابة فى هذه المجالات. ولم يمنعه الاعتقال الأول، بسبب آرائه السياسية عام 1966، والذى كان بسبب كتابته مجموعة مقالات فى جريدة «الحرية» اللبنانية، عنوانها «الثورة بين المسير والمصير»، والتى كانت تنتقد نظام ثورة 23 يوليو 1952، فاستمر فى ذلك الاتجاه، الذى جعله واحدًا من أساتذة الصحافة والتاريخ. المقريزى.. لا يموت يأبى هذا العام الكئيب أن يلملم أوراقه دون أن يزيد جرعة الألم والحزن والاكتئاب، فها هو طائر الموت اللعين يفعل فعلته ويأتينا بخبر رحيل الكاتب الصحفى والمؤرخ صلاح عيسى، بعد رحلة عطاء زاخرة بكل المعايير والمقاييس. لماذا يا عم صلاح؟ وكيف ترحل وأنت الذى منحتنا الأمل وكنت تروى لنا حكايات عديدة من دفتر الوطن بأسلوبك الشيق البديع، حتى وصفتك ذات مرة «صلاح عيسى.. أعظم حكاية من حكايات الوطن»؟ لماذا يا عم صلاح؟ وماذا أقول من ذكريات لا أول لها ولا آخر معك أستاذًا ومُعلمًا وصديقًا لا مثيل له؟.. من أين أبدأ؟ وهل أستطيع أن أكمل ما أحاول أن أبدأه والدموع تتحجر فى مآقيها، وأنا أتذكر شريطًا طويلًا لا نهاية له يرصد أيامًا لا تُنسى على مر السنين؟ عرفته قبل أن نعمل معًا فى الإصدار الثانى من جريدة «الأهالى» عن طريق زوجته الصديقة الغالية أمينة النقاش، وكان يصدر وقتها مجلة «الثقافة الوطنية» ويرأس تحريرها أيضًا.. له طريقة فى الحكى لا تقل جمالًا عن طريقته فى الكتابة وفق أسلوب «السهل الممتنع»، وحصل أن حدث خلاف بينه وبين الدكتور رفعت السعيد، حاول البعض أن يلعب على زيادة النار اشتعالًا، إلى أن وافق الكبيران على اقتراح منى أن يجلسا معًا للتصافى وإزالة الجفوة، وانتهى اللقاء إلى الاتفاق على تنظيم ندوة يتحدث فيها صلاح عيسى ورفعت السعيد حول إشكاليات الوضع الراهن آنذاك، واكتظت القاعة بالحضور حتى قارب عدد الواقفين عدد الجالسين، والكل يستمع وينصت فى حضرة العملاقين. عندما اختير عضوًا بمجلس تحرير «الأهالى» فى الإصدار الثانى، كنت تدخل عليه مكتبه فتكاد لا تعرف كيف يعمل هذا الرجل، وكل هذه الأوراق مبعثرة يمينًا ويسارًا بلا أى ترتيب، لكنك تكتشف أنه يمد يده وسط تلك الأكوام فيستخرج بين لحظة عين وانتباهتها الورقة التى يريدها. أفخر بأننى تعلمت أصول التحقيق الصحفى على يديه، إذ كان أول رئيس لقسم التحقيقات ب«الأهالى»، وكان اجتماع القسم أقرب إلى ورشة عمل تستمر ساعاتٍ طويلة.. يناقش الأفكار تفصيلًا ويشرك الجميع فى المناقشة حتى تتطور وقد تتحول إلى ملف متكامل «نشتغل» عليه شهورًا طويلة.. يسأل أحدنا فجأة: «ماذا تقرأ الآن؟»، فيتحول الاجتماع إلى ندوة حول الكتاب الذى يقرأه الزميل.. يطلب من أحدنا أن يستعرض أهم التحقيقات التى لفتت نظره طوال الأسبوع، سواء سلبًا أو إيجابًا، فيصبح الاجتماع درسًا فى فنون التحقيق الصحفى وكيفية إجرائه واستكمال عناصره من كل الجهات. لا أنسى ذلك أبدًا، وحاولت قدر ما أستطيع أن أجعل من اجتماعات التحقيقات، عندما توليت مسئوليتها بعد سنوات طويلة، مثلما كان يفعل ومثلما تعلمت منه. وعندما صار مديرًا للتحرير، كان يتابع كل الأمور بدقة متناهية ويناقش هذا وذاك ولا ينسى شيئًا، حتى لو كان منكبًا على كتابة الزاوية الأشهر ب«الأهالى»، «الإهبارية» بأسلوبه الشيق ولغته الساخرة، فكان الناس يتعاملون مع «الإهبارية» كما لو كانت صحيفة قائمة بذاتها، وكم من معارك خاضها من خلالها دفاعًا عن الحقيقة وكشفًا للزيف فى صحافتنا المصرية وفى تصريحات الكثير من المسئولين. وكنت أتعجب من قدرته على فعل أكثر من شىء فى توقيت واحد، حتى تملكتنى الدهشة عند زيارته بمنزله، فوجدته يكاد لا يظهر وهو جالس على مكتبه فى أحضان أوراق الصحف والعديد من الكتب ممسكا بقلمه يكتب مقالًا أو فصلًا من كتاب جديد، وهو يدندن مع صوت أم كلثوم أو فيروز المنطلق من راديو بجواره، بينما يشاهد أمامه على شاشة التليفزيون فيلما لإسماعيل ياسين أو نجيب الريحانى أو غيرهما من نجوم السينما المصرية. هذا المفكر الكبير والمؤرخ اللامع وقف وسط الشباب عند افتتاح معرض الكتاب الذى شاركت فيه إسرائيل للمرة الأولى، وأخذ يوزع بيانا «لا للصهيونية.. فى معرض الكتاب»، حتى تعرض للاعتقال داخل أرض المعرض هو والكاتب الكبير حلمى شعراوى والشاب وقتها كمال أبوعيطة، فكان نموذجا عمليا للمثقف المرتبط بقضايا وطنه، ولا يعرف الجلوس فى برجه العاجى، بعيدًا عن الجماهير التى تهمه مصلحتهم بالأساس. أتذكر عناوين كتبه فأرى وجهه أمامى وهو يناقشنى ويرد على أسئلتى حول بعض ما خطته يداه.. ينفعل أحيانًا ويبتسم كثيرًا ويتكلم فى هدوء ليقنعنى بما يريد.. ومثل كل كاتب يعتز بكل كتبه، لكنك تشعر بين كلامه أن «الثورة العرابية» هى الأقرب إلى قلبه، وأعتقد أن الحق كل الحق معه، فرغم كثرة ما كتب عن ثورة عرابى يظل كتاب صلاح عيسى متربعًا على القمة باستمرار. فى كتابه «حكايات من دفتر الوطن» يشدك أسلوبه القصصى، فلا تستطيع أن تترك الكتاب من دون أن تكمل قراءته متأملًا فى تاريخ وطن وزعماء وشخصيات كان لها تأثيرها فى مجريات الأمور، وأتذكر أن الدكتور رفعت السعيد كتب مقالًا بديعًا عن الكتاب أشاد به قائلًا إنه ليس حكايات من دفتر الوطن بل هو حكايات الوطن كله. الحكايات كثيرة يا عم صلاح.. نتناقش ونحتد على بعضنا البعض، ويحدث جفاء، فلقاء، فودٍ لا ينتهى، ومرت فترة أتمنى أن أنساها من الذاكرة، لكنى فى ظل تلك الفترة اتصلت به لأدعوه للمشاركة ببحث فى مؤتمر حول «دستور جديد للبلاد»، فوجدته مرحبًا يسألنى عن أحوالى، وكانت لمشاركته أهمية كبيرة وسط العديد من أساتذة القانون، ودار نقاش على هامش المؤتمر حول كتابه «دستور فى سلة القمامة»، فهو الذى اكتشف هذا الدستور بالصدفة، مثلما حقق بنفسه قصة ريا وسكينة، وأصدرها فى كتابه «رجال ريا وسكينة» الذى حمل بين دفتيه القصة الحقيقية بعيدًا عن «شغل المسرح والسيما». كل كتاباته لها قيمتها مثل أعمدته في صحف عديدة «حكايات المقريزى»، و«الإهبارية»، و«تباريح جريج».. وغيرها كثير. الحكايات كثيرة فعلا ياعم صلاح.. لكن أمثالك باقون بما أثروا به العقل العربى وبما تركوا من تلاميذ بالآلاف فى الصحافة المصرية. ماذا أقول لأمينة النقاش؟ حزنك حزنى وفقيدك فقيدنا.. فصبرًا جميلًا أختى العزيزة الغالية.. هكذا هى الحياة رغم قسوتها علينا جميعًا.