في الصباح اصنعها برفق في كنكة نحاسية، على نار هادئة، انتظر الوجه كي يملأ الفنجان واترك للرائحة أن تثير خيالك وأفكارك وذكرياتك.. وهكذا ظلت القهوة ذلك المشروب المرتبط بتاريخ الشعوب سحرا لا يقاوم، وذاعت حكايات الأدباء معها فقيل أن "بلزاك" كان يملأ إناء عملاقا ويضعه إلى جواره وهو يكتب، وقيل مثل هذا عن مارسيل بروست وبيتهوفن، وفي مدينة ميلانو توزع أكواب مجانية من القهوة في مطلع أكتوبر كل عام. وعرف العرب عشق القهوة قديمًا حتى قال الشاعر: "للبن سر قد حكته شيوخنا.. يا نعم منه كلهم أقطاب / فيهم نقول وقد تكامل وصفه.. في أكله نفع فيه ثواب". وجاءت القهوة دليلا على إكرام الضيف بعادات العرب، وجاءت بالأمثال الشعبية ومنها "فوت رحلة مصر ولا تفوت قهوة العصر" أو "دلق القهوة خير" كفأل شعبي. وظلت القهوة عنصرا بارزا بصباحات المبدعين وكتاباتهم أيضا؛ فنرى رضوى عاشور يقوم أبطالها بصنع القهوة بمعظم أعمالها وتتساءل "هل القهوة كالخمر تحرك القلب وتهزم الروح؟ وتتذكر الخالة أم دقدق فوق ركوتها المستقرة على الفحم المتوهج ودفء الطفولة.. أما محمود درويش فهو العاشق الأبرز في التعبير عن القهوة وهو صاحب "أحن إلى قهوة أمي" وهو من قال "لا أريد من الأيام كلها غير رائحة القهوة" في حنينه للماضي الفلسطيني؛ فالقهوة لمن أدمنها مثله هي "مفتاح النهار" و"عذراء الصباح" التي يفسدها الكلام. أما أنيس منصور فقد كتب عن عشقه للقهوة وكانت المقاهي هدفه بباريس وفي القاهرة وقف أمام البن البرازيلي "عشرات السنين" كما يقول، فهو يفضل أن "يموت منتعشا"! وعلى المقاهي كان نجيب محفوظ شيخ روائيي مصر يلتقي بحرافيشه؛ ومن هؤلاء تحدثنا لسعيد الكفراوي والذي ارتبطت القهوة عنده بالصباح والمساء، لكن القهوة أيضا هي صحبة وليست مشروبا؛ مكان لأصحاب الرأي وليس الهلافيت ومرتبط بالحياة المصرية تنورا وتخلفا نصرا وهزيمة، وعلى المقهى ظهرت تيارات الكتابة الحديثة وكانوا الفكر طارحا، بعكس المقهى اليوم الذي يسوده غياب القيم والفكر، ولهذا يحنون للمقاهي ويسعون لإحياء قيمها القديمة قبل أن تندثر. على النقيض لا يحب الشاعر أحمد الشهاوي أن يربط الإبداع بمنبه بعينه فالكتابة بنت يقظة العقل والروح كما يرى، ولكنه يعترف بأنه يشتري القهوة من بلدان العالم في محبه أصدقائه ويشاركهم شرب القهوة السريعة برغم كونه "رجل الشاي" كما يصف نفسه.