لا يحتاج نظام الرئيس التركى رجب طيب أردوغان، دليلا على أنه يؤدى دور الأب الروحى للتنظيمات الإرهابية المتأسلمة فى المنطقة، وما علاقته بتنظيم الإخوان الذى يستضيف «مطاريده» سوى مشهد فى سياق دراما ممتدة عنوانها الرئيسى «الحرب على الأكراد».. وأمام الرغبة المجنونة فى حرمانهم من الحكم الذاتى، أو انتزاع حقوق المواطنة منهم، فى دولة تزعم أنها دولة حريات، فليكن التحالف بين «الخليفة» والشيطان. ولعل تحالف أنقرة مع المتأسلمين ينبثق أولا من العداء لحركة «الخدمة» التركية الإصلاحية بزعامة فتح الله كولن، احتضن أردوغان الجهاديين السوريين بمختلف فصائلهم وقدم تسهيلات لتنظيم داعش الإرهابى، هذا مع الإبقاء على دفء العلاقات مع تنظيمات أخرى، منها ما يسمى بالجيش السورى الحر، الذى يشكل أقوى حلفاء تركيا فى الأراضى السورية، لإعلان الحرب على القوات الكردية تحت دعوى اضطهاد العرب فى مناطق سيطرتها. فى الرابع والعشرين من أغسطس أعلنت تركيا انطلاق عملية «درع الفرات»، وهو ما اعتبره النظام السورى خرقًا للسيادة الوطنية، داعيًا الأممالمتحدة إلى تنفيذ قراراتها المتعلقة باحترام سيادة الدول ووحدة أراضيها فى هذا الشأن. ووفقًا لقنوات إعلامية مؤيدة للمسلحين فى سوريا، فقد أقيمت معسكرات تدريب مشتركة مع الجيش التركى، شارك فيها 1200 مقاتل من فصائل «فرقة الحمزة» و«فيلق الشام» و«السلطان مراد» و«حركة أحرار الشام» و«حركة نور الدين الزنكى» و«جيش التحرير» و«الجبهة الشامية» و«صقور الجبل». وشاركت بالمعركة أسلحة المدفعية والطيران التركية. ومع بدء المعركة، أصدر ما يُسمى «الائتلاف السورى لقوى الثورة والمعارضة» تصريحًا صحفيًا، لتأكيد دعمه للمعركة، مشيرًا إلى ترحيبه بالدعم الذى تقدمه الدولة التركية وقوات التحالف الدولى بقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية للفصائل المسلحة. وتمكنت الفصائل، خلال المعركة المستمرة حتى الآن، من السيطرة على المناطق الحدودية الشرقية مع تركيا بالكامل، من مدينة جرابلس وحتى بلدة الراعى والقرى المحيطة بهما، فضلًا عن جزء من الحدود السورية الشرقية مع العراق، المتاخمة لنهر الفرات، وفقًا لآخر الخرائط التوضيحية التى نشرتها الفصائل. وامتدت المعركة أيضًا إلى السيطرة على مناطق تابعة لقوات حماية الشعب الكردية، أبرزها قرية العمارنة، وكذلك محاربة قوات سوريا الديمقراطية المؤيدة للنظام السورى. فيما دعا الجيش الحر المدنيين إلى إخلاء معظم مناطق القتال بشكل مؤقت، لإعلانها مناطق عسكرية. على صعيد آخر وتزامنًا مع المعركة، ظهر فصيل إرهابى جديد يحمل اسم «سرايا القادسية» فى مدينة الرقة، وأعلن فى بيانه التأسيسى بدء عمله فى منطقة الشمال السورى لاستهداف قوات حماية الشعب الكردية. واتهم الفصيل الأكراد بتهجير العرب واعتقال شبابهم والسعى نحو الانفصال عن الدولة السورية، معلنًا تفجير أى عربة عسكرية تابعة لهم، وتصفية أى عنصر تابع لهم أينما وُجد، حتى وإن كان عربيًا. وحرض الفصيل العرب المنتمين إلى القوات الكردية على الانفصال عنها. من جهته، قال تحالف «جيش الفتح» الإسلامى إن الجيش الحر يحمى الحدود التركية، بدلًا من حماية السوريين وفك الحصار عن الفصائل المقاتلة ضد الجيش السورى فى حلب. وهو ما يتناقض مع تصريحات سابقة لقادة التحالف تمتدح الدور التركى فى دعم الفصائل، وعلى رأسهم السعودى عبدالله المحيسنى القاضى الشرعى بالتحالف، الذى تحدث فى برنامجه «الشام فى أسبوع» عن استقبال المستشفيات التركية لجرحى المسلحين، مؤكدًا أن كل المعابر على الحدود التركية السورية مفتوحة لعبور الجهاديين إلى الجانبين، وأن تركيا لا تمنع سوريًا من العبور حتى لو لم يمتلك أوراق هوية. أصدر المجلس الشرعى لحركة «أحرار الشام» فتوى موجهة إلى قيادة الحركة، فى العشرين من سبتمبر، بجواز الاستعانة بالجيش التركى والتنسيق معه، لانتزاع مناطق جغرافية تقع تحت سيطرة داعش و«تتقاطع فيها مصالح الطرفين» أى أحرار الشام وتركيا. ورأى المجلس أن الحكم فى مسألة كهذه يعتمد على اعتبارات و«مصالح» أساسية، تتحدد فى التخلص من داعش، وضرورة وجود بديل من الفصائل الإسلامية فى المناطق التى ينحسر عنها التنظيم، حتى لا تقع بأيدى حزب العمال الكردستانى أو قوات حماية الشعب الكردية أو غيرهما، ممن زعم المجلس أنهم «معادون لثورة أهل الشام». وفجّرت تلك المسألة خلافات بين كبرى الفصائل والجهات الإسلامية فى سوريا، التى كانت على مشارف إعلان اندماجها معًا فى كيان موحد بعد قضائها على أبرز خلافاتها الداخلية. فعلى صعيد المؤيدين، قال سراج الدين زريقات، أحد القادة الشرعيين للفصائل السورية، إن الواجب الأول هو صد خطر الأكراد «الملاحدة»، على حد تعبيره، وأن التعاون مع الجيش التركى أمر اجتهادى لا يجب تحريم أى رأى بخصوصه. وأشار، فى الوقت نفسه، إلى أن تضارب بيانات الفصائل حول هذه القضية «ينبئ عن مصير الاندماج المنتظر بين الفصائل، الذى لو حصل فسيكون شكليًا»، مطالبًا بإعادة النظر فى مسألة الاندماج. وأفتى ما يُسمى «المجلس الإسلامى السورى» بأن الاستعانة بأى طرف فى قتال داعش والقوات الكردية أمر مشروع، طالما وُجدت الحاجة إلى ذلك وبشرط ألا يؤدى إلى تعطيل المعركة مع نظام الأسد، وسواء كانت المساعدة بمبادرة سورية أو من دولة «مسلمة جارة» كتركيا، تتعرض لعدوان التنظيم والأكراد مثل السوريين. وجاء «المجلس الشرعى فى حلب» كأشد المؤيدين للسياسات التركية، وأفتى بأن مشاركة الفصائل فى الحرب إلى جانب «تركيا المسلمة» هى «جهاد شرعى وعلى بصيرة، وليس فيه أى محظور، ولا ينبغى أن يختلف فى حكمه مسلمان». واعتبر أن التدخل التركى المباشر جاء «لإفشال مشروع دولة كردية على غرار إسرائيل، ذات تبعية غربية، تفصل الأتراك المسلمين عن إخوتهم العرب». وأكد المجلس على أن العمل الجهادى للفصائل السورية فى ريف حلب الشمال مستمر منذ سنين بدعم وتشجيع تركى، وأن الخلط بين تركيا والتحالف الدولى الذى تقوده الولاياتالمتحدة هو «تصور مغلوط للمعركة»؛ متجاهلًا التعاون التركى مع التحالف لقتال داعش منذ أكثر من عام. فيما جاءت النسبة الأكبر لمعارضى فتوى «أحرار الشام»؛ فاعتبرت قنوات معبرة عن الجهاديين أن التعاون مع تركيا هو «تعاون مع حلف الناتو». وأصدرت جبهة فتح الشام، التابعة لتنظيم القاعدة سابقًا والمتزعمة للحركات الجهادية السورية حاليًا، بيانًا حرّمت فيه القتال تحت راية أى طرف إقليمى أو تحالف دولى، لعدم توافر شروط شرعية تستلزم ذلك. ودعت أحرار الشام إلى إعادة دراسة فتواها، التى قد تتسبب فى نتائج كارثية تضيع مكتسبات الحركة الجهادية. وفسرت الجبهة قرارها بأن تركيا حليفة للولايات المتحدة، وأن تدخلها أدى إلى التدخل الأمريكى بما يؤزم الموقف، مع استعانتها بفصائل من الجيش الحر تتبع وزارة الدفاع الأمريكية «البنتاجون» مباشرةً، مثل فرقة الحمزة ولواء المعتصم. مضيفًا أن تركيا ترغب فى نقل المعركة مع النظام السورى وداعش من حماة وحلب إلى الريف الشمالى، لحماية أمنها القومى وحدودها من حزب العمال الكردستانى. واعتبر ما يُسمى «تجمع أهل العلم فى الشام» الذى يضم عددا من كبار مشايخ السلفية السوريين، أن أحرار الشام تورطت فى إطلاق الفتوى «دون دراية بما يلزم من العلم» ودون دراسة للواقع، محذرًا من خطر الاستعانة بتركيا بما يمنح الفرصة لداعش للطعن فى الجهاديين، ومؤكدًا أن الشر الأكبر الذى يجب دفعه هو منع تركيا «الكافرة الملحدة» من السيطرة على مناطق تابعة للجهاديين المتحالفين معها، نظرًا لقوتها التى تفوق قوتهم. واعتبر هانى السباعى، مدير مركز المقريزى للدراسات التاريخية وأحد منظرى تنظيم القاعدة، أن الفصائل السورية «تعاملت مع داعش برعونة»، ورفضت التوحد لمواجهته، لا سيما الفصائل التى تعتبره من الخوارج وليس كافرًا، وبالتالى لا يجوز لهم الاستعانة بتركيا فى محاربته. وشدّد عمر محمود عثمان، أحد منظرى القاعدة المعروف ب «أبى قتادة الفلسطينى»، على أن الولاياتالمتحدةوتركيا «دخلا سوريا على دبابة واحدة وتحت قيادة واحدة»، ولا فرق بين من يقاتل تحت راية أيٍ منهم فى تحريم ذلك، مشبهًا التدخل التركى ب «غزو التتار». وتراجع عبدالرازق المهدى، عضو المجلس الشرعى لأحرار الشام، عن فتواه بجواز التعاون مع الجيش التركى، قائلًا إن حقائق كانت غائبة عنه قد اتضحت له، وأنه ملتزم بفتوى تجمع أهل العلم الذى ينتمى إليه. كما أعلن أبواليقظان المصرى، المسئول الشرعى فى الحركة، استقالته، وانشقت كتيبة «مجاهدو أشداء» التى تضم 135 مقاتلًا عن الحركة، وفقًا لما ذكره فضل العكل القيادى بالحركة، والذى أوضح أن انشقاق المقاتلين لا يشكل قلقًا ل «أحرار الشام». رغم التحالف التركى القوى مع الحركات الإسلامية السورية ضد داعش، إلا أنه استمر فى تقديم خدمات مجانية غير مباشرة لتركيا، من خلال تركيزه على محاربة الفصائل الكردية التى تمثل أكبر شوكة فى ظهر النظام التركى. وقبيل الإعلان عن معركة «درع الفرات» نفذ التنظيم عملية انتحارية لم تستهدف القوات التركية أو المعالم الهامة بالبلاد، مثلما حدث فى عملياته السابقة، بل استهدفت حفل زفاف كردى فى مدينة غازى عنتاب الحدودية، فى الحادى والعشرين من أغسطس، وأودت بحياة 54 شخصًا منهم 31 تحت سن الثامنة عشرة. واتخذ نظام الرئيس رجب طيب أردوغان هذا الحادث ذريعة للتدخل العسكرى المباشر فى سوريا. ونشرت مؤسسة إعلامية مناصرة للتنظيم، فى التاسع عشر من سبتمبر، صورة توضيحية لهجماته فى مناطق سيطرة حزب العمال الكردستانى فى محافظات الحسكة والرقة وحلب على مدار تسعة أسابيع، والتى وصلت إلى 25 هجومًا بالعبوات الناسفة وست هجمات انغماسية لمسلحيه وهجوم واحد بشاحنة مفخخة، فى مدن منبج وسد الفاروق وعين العرب وتل أبيض وسلوك والقامشلى والشدادى والحسكة والقحطانية والهول. وأسفرت الهجمات عن مقتل 498 عنصرًا بالحزب. اعتبرت تقارير استخباراتية غربية أن ما تفعله تركيا من التدخل فى الشأن السورى لن يحميها من داعش، فبمجرد بدء معركة «درع الفرات» قال آرون ستين، الباحث فى مركز رفيق الحريرى الخاص بشئون الشرق الأوسط، والتابع لمجلس إدارة صحيفة «أتلانتيك» الأمريكية، إن التنظيم قد يرد على «درع الفرات» بهجمات متفرقة ضد القوات التركية وحلفائها فى مدن سورية أخرى، لأن تركيا هدف سهل لهجمات كهذه، كما لا يزال داعش يمتلك القدرة على تنفيذ هجمات ضد أهداف داخل الأراضى التركية. وأضاف فى مقالة تحليلية أن تركيا تسامحت مع التنظيم، ومع المجموعات التى قام بتجنيدها وتهريبها عبر حدودها، منذ البداية. موضحًا أن صراع أردوغان مع جماعة فتح الله جولن جعله يفصل نحو 7000 موظف بأجهزة الأمن والاستخبارات التركية، مما يضعف قوة نظامه فى مواجهة خلية داعش التركية التى تصنع الأسلحة محليًا وتمتلك خططًا لعمليات كبرى. وقال كرم سعيد، الباحث بالشئون التركية فى المركز الإقليمى للدراسات الاستراتيجية، إن تركيا دخلت إلى الشمال السورى باستراتيجية محددة هى القضاء على الأكراد، ومنع وصولهم لمنطقة غرب الفرات، ثم مكافحة تنظيم داعش كهدف ثانٍ؛ لذا فقد تتخلى عن دعم الفصائل الإسلامية فى محاربتها للتنظيم فى سبيل القصاء على الأكراد. ودلّل سعيد على ذلك برفض تركيا المشاركة فى معركة تحرير مدينة الرقة من داعش، إذا شاركت الوحدات الكردية فيها.