جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا تتصدر تصنيف التايمز العالمى للجامعات الناشئة لعام 2024    غرفة السياحة تكشف الأسعار الجديدة لبرنامج حج فئة ال 5 نجوم    مراحل توطين صناعة الإلكترونيات في مصر (إنفوجراف)    الطوارئ الإيرانية: لا إمكانية للإنقاذ الجوي لطائرة الرئيس بسبب الضباب    مشجع ليبي يدعم الزمالك من الاستاد: أعشق القلعة البيضاء من صغري (فيديو)    مانشستر يونايتد يسعى لضم لاعب يوفنتوس بعد نهاية عقده    القبض على تاجر سلاح فى أسيوط غسل 47 مليون جنيه    ترقب وفرحة: قدوم موعد عيد الأضحى 2024    نوال الزغبي تطرح أغنيتها الجديدة "من باريس" (فيديو)    «مراسم دندرة للرسم والتصوير» في معرض فني لقصور الثقافة بالهناجر الأربعاء    الإعلان عن مبادرة للحصول على حقوق الأداء العلني للآثار المصرية المعروضة في الخارج    برنامج تدريبى لصيادلة مستشفيات التأمين الصحى بالشرقية    «الصحة»: الإرادة السياسية القوية حققت حلم المصريين في التأمين الصحي الشامل    القومي لحقوق الإنسان يبحث مع السفير الفرنسي بالقاهرة سبل التعاون المشترك    وزير الإسكان: مبادرة "سكن لكل المصريين" تسعى لتوفير المسكن الملائم لمختلف الشرائح    بالصور.. رئيس جامعة المنصورة يتفقد أعمال تجديد مدرجات كلية الحقوق    ميسرة صلاح الدين: الشعر كائن عنيد ومتمرد    "المنظمات الأهلية الفلسطينية" تؤكد أهمية دور مصر الرائد والمستمر في دعم الشعب الفلسطيني    مصرع شخص غرقًا في ترعة بالأقصر    الدفاع الروسية: مقتل نحو 1900 عسكري أوكراني خلال الساعات ال24 الماضية    الأربعاء.. عرض فيلمي «فن القلة» و«فن العرايس» بمركز الثقافة السينمائية    أزمة الدولار لا تتوقف بزمن السفيه .. مليارات عيال زايد والسعودية وصندوق النقد تتبخر على صخرة السيسي    منها مزاملة صلاح.. 3 وجهات محتملة ل عمر مرموش بعد الرحيل عن فرانكفورت    إنجاز قياسي| مصر تحصد 26 ميدالية في بطولة البحر المتوسط للكيك بوكسينج    محافظ قنا: تمويل 2144 مشروعا صغيرا ومتناهي الصغر ب102 مليون جنيه    باحثة سياسية: نزوح 80 ألف شخص من رفح الفلسطينية إلى خان يونس ودير البلح    ما هو الحكم في إدخار لحوم الأضاحي وتوزيعها على مدار العام؟    «الإفتاء» توضح حكم حج وعمرة من يساعد غيره في أداء المناسك بالكرسي المتحرك    رئيس «قضايا الدولة» ومحافظ الإسماعيلية يضعان حجر الأساس لمقر الهيئة الجديد بالمحافظة    «الجوازات» تقدم تسهيلات وخدمات مميزة لكبار السن وذوي الاحتياجات    نصائح وزارة الصحة لمواجهة موجة الطقس الحار    «صحة المنيا» تنظم قافلة طبية مجانا في قرية أبو سيدهم بمركز سمالوط    محافظ الدقهلية يتابع الموقف التنفيذي لأعمال ممشى السنبلاوين الجديد    مركز الأزهر العالمى للفتوى الإلكترونية يوضح أنواع صدقة التطوع    أسرة طالبة دهس سباق الجرارات بالمنوفية: أبوها "شقيان ومتغرب علشانها"    هالة السعيد: 4 مليارات جنيه استثمارات لمحافظة قنا بخطة عام 23/2024    إعلام إسرائيلي: اغتيال عزمى أبو دقة أحد عناصر حماس خلال عملية عسكرية في غزة    «المريض هيشحت السرير».. نائب ينتقد «مشاركة القطاع الخاص في إدارة المستشفيات»    رئيس هيئة الدواء يشارك في احتفالية إنجازات المرحلة الأولى من التأمين الصحي الشامل    وزير العمل: لم يتم إدراج مصر على "القائمة السوداء" لعام 2024    10 نصائح للطلاب تساعدهم على تحصيل العلم واستثمار الوقت    مساعدون لبايدن يقللون من تأثير احتجاجات الجامعات على الانتخابات    وزيرة الهجرة: مصر أول دولة في العالم تطلق استراتيجية لتمكين المرأة    إيرادات فيلم السرب تتخطى 30 مليون جنيه و«شقو» يقترب من ال71 مليون جنيه    أول صور التقطها القمر الصناعي المصري للعاصمة الإدارية وقناة السويس والأهرامات    تقدم 28 جامعة مصرية في تصنيف التايمز العالمي للجامعات الناشئة لعام 2024    ياسر إبراهيم: جاهز للمباريات وأتمنى المشاركة أمام الترجي في مباراة الحسم    ضبط 100 مخالفة متنوعة خلال حملات رقابية على المخابز والأسواق فى المنيا    مدينة مصر توقع عقد رعاية أبطال فريق الماسترز لكرة اليد    حجازي يشارك في فعاليات المُنتدى العالمي للتعليم 2024 بلندن    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأحد 19-5-2024    ولي العهد السعودي يبحث مع مستشار الأمن القومي الأمريكي الأوضاع في غزة    ضبط 34 قضية فى حملة أمنية تستهدف حائزي المخدرات بالقناطر الخيرية    أسعار الدولار اليوم الأحد 19 مايو 2024    حقيقة فيديو حركات إستعراضية بموكب زفاف بطريق إسماعيلية الصحراوى    إصابات مباشرة.. حزب الله ينشر تفاصيل عملياته ضد القوات الإسرائيلية عند الحدود اللبنانية    مدرب نهضة بركان: نستطيع التسجيل في القاهرة مثلما فعل الزمالك بالمغرب    عماد النحاس: كولر أدار المباراة بشكل متميز.. وغربال كان متوترًا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فتنة الجلوس بالقرب من صبري موسى
نشر في البوابة يوم 14 - 07 - 2016

اليوم.. محافظ دمياط يكرم فرسان المدينة الثلاثة.. وهيئة الكتاب تعد لاحتفالية خاصة لكاشف «فساد الأمكنة»
«الحاج على» يطلب حقوق «فساد الأمكنة» ويقر طباعة «الكتابة على الحافة» عن أعمال محبي أدب الرحلات
إعادة إصدار أعماله الكاملة.. وإعداد «بورتريه» شخصى لتقديمه فى احتفالية المركز الدولى للكتاب
عندما طلب منى الدكتور «هيثم الحاج على» تنسيق عملية إعادة طبع الهيئة العامة للكتاب لإحدى روايات الكاتب الكبير صبرى موسى، لم يكن يعلم أنه يفتح جرحًا طالما ضغطت آلامه القلب، وبابًا للفرح طالما تمنيت الدخول منه.
فأما الألم فمبعثه قسوة الأيام التى دفعتنى فى نهر الحياة بعيدًا عن أعين الأستاذ الذى تعلمت الحياة بالقرب منه، وعلى يديه بدأت خطواتى فى مهنة البحث عن المتاعب، وتعلمت متعة الحفاظ على أصول الكتابة، والقراءة، والرقص مع الحياة، والاحتفال بها. هو الذى شق بعصاه درب الكتابة فى أدب الرحلات، وغاص فى عمق الوجوه والأسماء، وقرأ الأحجار والرمال، والبحيرات، ونحت منها جميعًا، مسيرة لم يسبقه إليها أحد إلا فى رحلة الأدب العربى، وسار على هديها كثيرون من بعده، ومعه، ليظل هو صبرى موسى، الفرد، المتفرد فى عذوبته، فى الفن كما فى الحياة.
وأما باب الفرح، فهو العودة إلى رحاب الأب الذى علمنا السحر، والاحتفال بمنجزه الأدبى، الذى وعد الدكتور هيثم الحاج على، رئيس الهيئة العامة للكتاب، ببدء الترتيب له، فور الاتفاق على طبع الرواية، وكتاب «الكتابة على الحافة»، الذى أعدته الزميلة الصحفية أنس الوجود رضوان، عما كتبه كبار النقاد والكتاب والمفكرين عن أدب صبرى موسى، والبدء فى رسم بورتريه شخصى للكاتب الكبير، تتزين به قاعات، ومنافذ، وطرقات الهيئة إلى جوار نخبة من كبار أدباء مصر الذين تزهو بهم على العالمين.
لم أتردد فى الاتصال بالزميلة الصحفية أنس الوجود، زوجة الكاتب الكبير صبرى موسى، لترتيب الاتفاق على إعادة طبع «فساد الأمكنة»، ورغم حرصها الشديد على حقوق أديبنا الكبير، لم تتردد هى أيضا فى الموافقة على منح الهيئة حقوق طبع الرواية، مؤكدة لى ما كنت أعرفه من قبل، بشأن تفضيل الأستاذ صبرى لنشر أعماله عن طريق الهيئة العامة للكتاب، البوابة الرئيسية للوصول إلى عموم قرى، ومدن مصر.
وإذا كان لمحافظ دمياط، الدكتور إسماعيل عبدالحميد طه، أن يزهو بمدينته، وهو يحتفل صباح اليوم بثلاثة من كبار المبدعين من أبنائها، السيناريست بشير الديك، والكاتب المسرحى يسرى الجندي، والروائى والقاص صبرى موسى.. فالثلاثة قامات لا تطاولها قامات. ثلاث علامات فارقة فى مجالاتها، فإنه لى أن أحتفل بأستاذى الذى كنت واحدا من المحظوظين بالحياة بالقرب منه، وفى ظله، وكنت أكثر المحظوظين باستراق النظر إليه طويلا، وتأمل لحظات استغراقه فى قراءة الوجوه، واللفتات، والتقاط اللحظة الحقيقية فى زحمة الأيام.. كيف كان يرسم الدوائر فى الهواء، فيما عيناه على عنوان تقرير صحفى يبحث عن بوابة تغرى قارئا عابرا، ثم تهبط بالقلم الرصاص، فتحذف حرفا هنا، وحرفا هناك، وتخط كلمة، أو اثنتين، فإذا العنوان الخالى من المعاني، قد تحول إلى بوابة لا غنى عن المرور بها للوصول إلى آخر كلمة فى تقرير كتبه شاب على عتبات الصحافة، ومنحه الكاتب الكبير من روحه، وفكره، ما استطاع.
وربما كنت أكثر تلاميذه، ومحبيه استمتاعا بموسيقى حضوره الإنسانى الذى يخطف الروح، وحضوره الكتابى الذى يفيض عذوبة، وجمالا، بقدر ما يفيض بالمعانى والدلالات، بداية برواياته «فساد الأمكنة»، و«حادث النصف متر» و«السيد من حقل السبانخ»، ومجموعاته القصصية «القميص»، «وجهًا لظهر»، «مشروع قتل جارة»، «روايات صغيرة»، و«حكايات صبرى موسى»، وصولا إلى السيناريوهات التى كتبها للعديد من الأفلام.
أما كتبه فى أدب الرحلات: «فى الصحراء» و«فى البحيرات» و«رحلتان فى باريس واليونان» و«الغداء مع آلهة الصيد».. فهى الكتب التى وضعت اسمه فى صدارة مائدة الأدب العربي، باعتباره رائد هذا الفن، والذى انتقل به من مجرد حكايات خالية، منزوعة البشر، إلى مائدة ملوكية عامرة.
إنه صبرى موسى، الذى لم تأخذه الصحافة من فنه، منذ أن بدأ رحلته فى بلاط صاحبة الجلالة، بجريدة «الجمهورية»، قبل أن ينتقل منها إلى محطته الأثيرة فى «روزاليوسف»، وظل طيلة الوقت هو «مدرس الرسم» الذى يحكى. ففى إحدى مدارس دمياط كان يعلم الأولاد كيف يخطون الصور على الورق، وكيف يطلقون عليها أفراحهم الملونة فتزدهى، فترك المدرسة، التى لم يستقر فيها سوى عام واحد، وجاء ليرسم بالكلمات، فى صبر ودأب، فحصد تقديرًا تلو آخر.. من جائزة الدولة التشجيعية فى الأدب عام 1974، إلى وسام الجمهورية للعلوم والفنون من الطبقة الأولى عن أعماله القصصية والروائية عام 1975، ومثله عام 1992، ثم جائزة الدولة للتفوق عام 1999، وأخيرًا جائزة الدولة التقديرية فى الآداب عام 2003، وقبل هذا بربع قرن كامل حصد جائزة «بيجاسوس» من أمريكا، وهى الميدالية الذهبية للأعمال الأدبية المكتوبة بغير اللغة عام 1978، وجائزة الدولة للسيناريو والحوار فى مصر عام 1968، كما تم تكريمه فى مهرجانات ومؤتمرات عديدة فى مصر والخارج.
وإذا كانت آفة الحياة الثقافية فى مصر والبلاد العربية، اللهاث وراء الجوائز ظنًا أنها قد تمنح من يحصلون عليها قيمة ما، فهناك من يمنحون الجوائز قيمة، ومنهم أديبنا الكبير الأستاذ صبرى موسى.
خمس سنوات، أو أكثر بقليل، عشتها كاملة، عشتها فى ظلال الكاتب الكبير، الذى لم تفارقه ابتسامة الترحيب منذ يومى الأول معه بجريدة «العربي» الناصرية، فى مارس 2003، التى كان يشرف على صفحتى الثقافة والفن بها، صحبنى إليه واحد من قيادات الحزب وقتها، وقدمنى إليه كشاعر، ومحب، وراغب فى التعاون معه، فلم يسألنى عن مؤهلات دراسية، أو أى خلفيات اجتماعية، فقط سألنى عما يمكن أن أقدمه للصحيفة، وما أعرفه عن فنون الكتابة الصحفية، وما لدى من أفكار لموضوعات.. ليفتح لى خزائن أسرار المهنة التى طالما حلمت بالالتحاق بقطارها، لم يبخل بمعلومة، على واحد من أفراد القسم، وكانوا أكثر من الهم على القلب، أربعة وثلاثين محررا لصفحتين أسبوعيتين، لم يفضل واحدا منهم على الآخر، كانت الأفضلية للمادة التى تصلح للنشر، والتى تلتزم بفنون المهنة المعروفة، إلا أن الأمر لم يكن يسلم من بعض المنغصات، خصوصا من أعضاء الحزب، الذين كانوا يرون فى أنفسهم مُلاكا للصحيفة، وعليها أن تنشر ما تجود به قريحتهم، حتى ولو لم تكن له أى صلة بالمهنة التى يريدون الالتحاق بنقابة العاملين بها، فلم يكن يستجيب لأى ضغوط، أو وساطات.. إن جاءوا بأخبار أو تقارير، أو حتى حوارات، فأهلا وسهلا، أما ما كانوا يلقون به من مقالات، فلم يكن لها مكان فى الصفحات التى يشرف عليها، حتى بدأوا فى شن حرب ضروس ضده، بحجة الاختلاف فى الرؤية.. وقتها اخترت الانحياز لمن أعرف من هو، وما قيمته.
وبدون مقدمات بدأ أفراد فريق «الاختلاف فى الرؤية» يرتدون النظارات، ما كان لافتا للنظر، حتى إن الأستاذ صبرى سألنى فى إحدى مرات السخرية التى كانت سلاحه فى مواجهة كوميديا الحياة: هو إيه حكاية النضارات دي؟! ما تجيب لك واحدة يا عبدالوهاب، أحسن تكون دى نضارات الرؤية.. خلينا نعرف رؤية الولاد دول إيه.
خمس سنوات، تعلمت فيها معنى الخبر، وأصول الكتابة، وعرفت خلالها، كيف تكون الكتابة الأدبية، وكيف تكون الرواية مصرية خالصة، بقدر ما تغوص فى مرارة الواقع، بقدر ما تعالجه بمسحة من السخرية، وخفة الروح، وقراءة لعمق ما تخلفه الأيام على الوجوه، والأرواح.
خمس سنوات من الحكايات، والأسرار والتفاصيل، التى أظن أنها سوف تبقى معي، وإن طالت الأيام، وبعدت المسافات، فقط لأنها كانت خمس سنوات عشت فيها فتنة الجلوس بالقرب من صبرى موسى.
قرص جبنة دمياطية كاملة الدسم.. منظره فاتح للشهية
حتى إن كنت شبعان فإن ريقك يجرى ولا تجد حرجا فى أن تمد إصبعيك وتقتطع نتفة تطوح بها فى فمك.
لعله قرص من حلوى المشبك الدمياطى..
لعله كتلة من الشكلمة، تلك الحلوى المغربية الأصل التى استوطنت مدينة دمياط واكتسبت عذوبة ماء النيل وخصوصية مناخ دمياط وزخمها التاريخى العتيق.
كل منتجات هذه المدينة العريقة- من صناعة الجبن الأبيض والموبيليا إلى صناعة البشر- تحمل خصائص دمياط ونكهة جوها.
الكاتب الأديب صبرى موسى مثلا، يشبه دمياط قلبا وقالبا.
دعنا من الشائعات الفولكلورية العتيقة التى التصقت بكل إقليم من أقاليم مصر صفة أو صفات من قبيل الهجاء اللطيف لأهله أو لطبيعة موقعه. تلك شائعات تدخل فى باب الفن وحده ولا تصلح أن تكون وثائق للكشف عن مضمون الشخصية الإقليمية، ولو نظرنا إليها باعتبارها فنا خالصا وليست أحكاما فسنكتشف أنها قصدت معانى أخرى ودلالات غير التى فرضناها عليها.
ف«ألف نورى ولا دمنهورى» - مثلا - لا تعنى أن الدمنهورى الواحد أكثر لصوصية من ألف لص من لصوص النور، إنما تعنى أنه تاجر متودك حصيف يعرف كيف يكسب فى البيع والشراء، أما صورة البخيل الدمياطى التى تحفل بها أدبيات النكتة المصرية من أنه يقول لضيقه دائما: «تتعشى ولا تنام خفيف؟». فالمقصود بهذه الطرفة أن الدمياطى شديد الحرص على ماله بحكم كونه فى ملقف، ودمياط كميناء عتيق تتلقى الغزوات المستمرة فلا بد لابنها أن يحرص على ألا يستغفله أحد.
هكذا صبرى موسى بالظبط..
إنه شديد الشبه بمدينته الحبيبة دمياط، حتى يكاد يكون تشخيصا لشكلها العريق الساحر، وتلخيصا لمضمونها الاجتماعى الموغل فى القدم، المتطلع دائما إلى آفاق بعيدة بحكم انسياب نهر النيل من خلفه ومن حوله، الجامع بين عذوبة النهر وملوحة البحر فى مزيج عبقرى مستساغ، هو عذب شديد العذوبة حين يستغربك أو يشتم فيك رائحة الغزاة حتى وإن كنت من بنى جلدته.
إنه كذلك ابن مجتمع عملى صرف، لا مجال فيه للرحرحة، للثرثرة، للمجاملات المفرطة، الحوار فيه كلمة ورد غطاها.. بكم؟ بكذا، ألا ينفع بكذا؟ يفتح الله، حوار من خلال العمل والعمل على عينك يا تاجر، ها أنت ذا فى ورشة الموبيليا مثلا، ترى بعينيك نوع الخشب وأسلوب الصنعة والعرق المتصبب فى استنطاق الخشب وتأليف الأسرة والدواليب والمقاعد الوثيرة، هو مجتمع حرفى يلعب فيه الفن دورا كبيرا، وتشهد موبيلياته ذوقا فنيا عالى المستوى، هو كذلك مجتمع رومانسى الهوى، شاعرى الموقع، فأن تقف مدينة على ناصيتى البحر والنهر معا فحدث عن سحر موقعها ولا حرج، لا غرو فمدينة دمياط وضواحيها كانت طول عمرها حقلا خصيبا يغذى العاصمة بأعلام عظام، فى الشعر والأدب والموسيقى والسياسة لو حصرناهم فى تاريخنا الحديث وحده لاحتجنا إلى مجلدات لا تكفى مكتبة الإسكندرية.
وجه صبرى موسى قريب الشبه إلى حد كبير جدا بشكل ميناء دمياط القديم: بيضاوى، انسيابى كقارب الصيد منفرج الشفتين من الجهتين.
من بعيد يبدو الوجه جميلا جدا كالقمر، كل ملمح فيه مضيء وواضح بشكل حاسم وضوحا جميلا أيضا. وإنه لمن الوجوه النادرة التى تشبه - لشفافية بشرتها- شاشة الكمبيوتر تتشكل فوقها الحروف والألوان فى جمل مفيدة وأشكال دالة، وفقا لأصابع خفيفة فى قلبه تعزف على لوحة الحروف نقوشا تجسد المشاعر والخواطر والأخيلة.
ولذا فأنت لست محتاجا لأن تسأل صبرى موسى عن رأيه بوضوح وصراحة فى أى أمر من الأمور، لأنك بمجرد طرحك للأمر سترى كل شيء على صفحة وجهه بصراحة ووضوح قبل أن ينطق، فإن نطق فكلمات دقيقة موجزة تلخص موقفه بإيقاع حاسم، وتلخيص الموقف هو العنوان الشامل الجامع لجوهر الرأى، فإن طلبت منه تجديد رأيه بكلمات مجردة محددة فإنه - أقصد شاشة وجهه - سيعكس اعتراضا غير منطوق مؤداه أن الأمر فى نظره لا يصلح فيه الحسم والتحديد إذ إن كل شيء نسبى وكل نسبة تحمل قدرا من العاطفة، كل رأى - أدبيا كان أو فنيا أو سياسيا أو فى أية قضية من القضايا - لا ينبغى أن يترك للعقل المجرد وحده دون بطانة من العاطفة. إن العاطفة هى بمثابة الزيت لمحرك السيارة، إذا لم تنتشر بين خلايا العقل - بمقدار - تصادمت الأفكار، وأدى احتكاكها العنيف ببعضها إلى تلف الرأى فى النهاية.
صبرى موسى حدوتة كبيرة، لكنها مع الأسف أفلتت من حواديت صبرى موسى حتى الآن، مع أنها أجمل وأخطر حدوتة ألفها فى حياته.
أقول إن وجهه البيضاى القمرى يبدو على مبعدة كوجه نجم من نجوم السينما العالمية: اتساق فى الملامح، رقة فى التقاطيع، شفافية البشرة، سحرها الخادع الذى لا يشيخ ولا يذبل أبدا باسم الله ما شاء الله لأن قلبه المخضوض دائما يضخ فيها الصفاء والحياء والاشتهاء الدائم للتفاصيل المثيرة، والتلهف إلى لحظات المرح، والروقان، والسرحان، فابن الثغر الدمياطى لا يشذ عن أبيه الذى أدمن الإنصات لهسهسة الموج الحميم وإطلاق البصر لاستقبال الأشرعة البازغة على مشارف الأفق. ابن الثغز الدمياطى لا يستطيع التفكير بسلامة والكتابة بتركيز حقيقى بعيدا عن الضوضاء الغوغائية.
تراه- من بعيد كذلك- فتظنه من الأرستقراطية المنعمة، تربى فى المدارس الأجنبية وأكمل التعليم فى لندن أو باريس هذه الصورة يدعمها سلوك غاية فى الانضباط، إنه ابن ناس أحسنوا تربيته، ها هو ذا يتكلم بصوت خافت، وبأدب جم، ينتقى ألفاظه ويلفها فى ورق السوليفان قبل أن يسلمها للأذان المصغية من فرط أدبه ورقته يكاد يعتذر لك عن كل كلمة، عن كل شيء لا يعجبك فى الكون فى المجتمع فى الحياة برمتها كأنه المسئول الأول والأخير عما تعانيه أنت من وجع.
ولكنك إذا اقتربت من وجه صبرى موسى ومن شخصيته فسوف تكتشف ما لم يكتشفه كولومبس على الساحل الهندى الأحمر، ستضع يدك على أخيك فى الرضاعة، رضاعة الشقاء والمدعكة القاسية فى رحلة كفاح عظيمة مشرفة لصبى متفتح القلب والوعى أصبح علما من أعلام العرب المعاصرين ورائدا من رواد الأدب الحديث، يجب أن يقام له تمثال حى فى كل قلب من قلوب القارئين.
سترى فى وجه صبرى موسى كسرة خبز قمحى، وباذنجانة مخللة، وقرصا من العجة، وقلة ماء رطيبة، وكوب شاى ثقيل، وحصيرة، ولوحا من الإردواز، وطباشيرة، وقلما من البسط ودواة حبر من هباب الفرن، وزجاجة صمغ من عرق أشجار السنط ومخلاة من قماش قديم فيها كتب وكراريس، وجلبابا نظيفا من الزفير المقلم وخواطر ذكية وروحا مشرقة مليئة بالتصميم والإصرار والقدرة على النجاح بجدارة وشرف واستحقاق، سترى كذلك حارات لولبية ضيقة، لكنها ذات سحر فى زخمها الإنسانى ودفئها وشوارع ينعشها هواء البحر برائحة اليوم، وخيرات جلبتها شباك الصيادين ومصانع جبنة وورش الموبيليا ومقاهى شعبية لا تستقر كراسيها ومناضدها على أرض غير مرصوفة، ومساجد من العصر الإسلامى الأول، وأنتيكات ومأثورات تركها الغزاة العابرون، وحكايا لا نهاية لها زرعها المصطافون من جميع أنحاء الدنيا فى عشش رأس البر، وحلوانية، وأراضى زراعية عفية شاسعة..
كل هذا وذاك تعكسه شخصية وأدب صبرى موسى، ذلك الأدب المكتوب بروح دمياطية صرفة تتمثل فى الحرص الشديد على أن يكون البوح محسوبا بمعيار دقيق، إنه لا يعرف البساط الأحمدى، لا يعرف الاسترسال التلقائى إلا بهامش يقظ جدا فى خلفية الصورة، يلملم ما يمكن أن يسقط رغما عنه من خصوصيات ثمينة لا مجال لعرضها الآن أو هناك، بل يجب ادخارها، وأحيانا تجب مصادرتها وفقا للمعايير التى انتهجها منذ وقت مبكر ليصوغ بها شخصية على هذا النحو المحبوك المنضبط لا غرابة، فهو ابن شريحة حضرية من شرائح الطبقة المتوسطة الزراعية، وأعنى بها كبار وصغار موظفى الدولة، إنه مجبول على الانضباط شكلا ومضمونا ليكون جديرا باحترام المجتمع، إذ ليس له ثمة من سند يفرضه على المجتمع فى مركز مرموق لا مال ولا جاه ولا سلطة، إذن فرأسماله حينئذ هو بناء الذات على أسس سليمة عملا بالقول المأثور الصيني: «أنت حيث تضع نفسك»، وما يقابله عند المتنبى شاعر العرب من قوله: «ليس الفتى من يقول كان أبى.. إنما الفتى من يقول ها أنذا»، وكان لا بد لصبرى موسى بوعيه الطبقى المبكر ونضجه الفنى الأبكر، أن يبنى شخصيته على النحو الجدير بالاحترام بحيث يفرض احترامه على كل من يحتك به بأن يكون حسن السمعة والسلوك مثل الجنيه الذهب لا تخرج منه العيبة، يعامل الآخرين بالأسلوب الذى يرجو أن يعامله به الآخرون، يمسك عن الثرثرة حتى لا يقع فى أغلاط غير مستحبة، يفرز محتوياته أولا بأول فرزا دقيقا ليعزل ما يمكن أن يقال عما لا يصح قوله، حتى وإن كان جميلا، ولهذا فقلما تكون شخصية صبرى موسى - أو حياته - مصدرا لقصصه، باستثناء القصة العظيمة «التباس» التى كتبها عن شيخوخة أبيه بقدر كبير من الشفافية المدروسة، أما رواياته الشهيرة: «فساد الأمكنة» و«الرجل من حقل السبانخ» وحتى حواديته وقصصه القصيرة فإنها لا تحمل من حياته الشخصية سوى عطر الأسلوب، وربما كانت رواية «حادثة النصف متر» هى الوحيدة التى لا تسقط الخصوصية الشخصية مهما خباها الفن.
أسلوبه شديد الاقتصاد..
وبهذه المناسبة، فلا بد أن نسجل ها هنا شيئا حرمه صبرى موسى وسكت عنه التاريخ ذو الذمة الواسعة.
ذلك هو أن صبرى موسى يعتبر أحد أهم رواد الحداثة فى القصة المصرية القصيرة ولعله المنجز لما أسماه السابقون بالقصة الصحفية القصة التى يقرؤها قارئ الصحيفة العجول البرم، وتكون كالحقنة التى تترك فيه أثرا فوريا، ومنذ أن اتسعت الصحيفة لفن القصة القصيرة والرواد يحاولون خلق نموذج يؤسس للقصة التى تخاطب أفهام القاعدة العريضة جدا من عامة القراء، دون أن تبتذل نفسها أو تخرج عن دائرة الأدب - بمعنى ارتفاع مستوى التعبير - أو عن دائرة الفن - بمعنى الالتزام بقواعد وتقاليد وموروثات هذا الفن التزاما خلاقا متطورا مع تطور الوعى الاجتماعى، فى هذا تتنافس الأصائل من محمود كامل المحامى، ويحيى حقى ورفاقه أعضاء المدرسة الحديثة أمثال أحمد خيرى سعيد وطاهر لاشين وعيسى عبيد وغيرهم، ومحمود البدوى ونجيب محفوظ وأمين يوسف غراب ويوسف جوهر وسعد مكاوى وإبراهيم الوردانى وإحسان عبدالقدوس، ثم الجيل الأنضج الذى قاده يوسف إدريس، ومنه صبرى موسى، وإدوار الخراط، وسليمان فياض، وصالح مرسى، وعبدالله الطوخى، وأبوالمعاطى أبوالنجاو، وفهمى حسين، وعبدالفتاح رزق وغيرهم ولكل واحد من هؤلاء جهده ولونه وعالمه، ولكن صبرى موسى يتميز عنهم بكونه صاحب مدرسة خاصة كرست وأسست للقصة الصحفية النيرة، إذ كان البعض يظن أن كلمة «الصحفية» تقلل من القيمة الأدبية والفنية للقصة، فإنه ظن خاطئ تماما كأى ظن، فالواقع أن القصة الصحفية التى قدمها صبرى موسى كانت وستظل أدبا خالصا مع ذلك، وفنا قصصيا بالدرجة الأولى، كل ما هنالك أن هذا الفارس الدمياطى النبيل عرف كيف يصب رؤاه الفنية فى أزياء شعبية بالغة الرشاقة والبساطة والاحترام.
ومن هنا، فليس ثمة من تناقض بين صبرى موسى الأديب وصبرى موسى الصحفى، لأنه فى الحالين ذلك العصفور الرشيق ذو النغم الشجى الآسر العاشق للطيران على علو شاهق إلى مسافات بعيدة ليتعرف على البحيرات والأودية والواحات.
لقد عرفته فى أوائل الخمسينيات عبر أقاصيصه المبكرة التى كان ينشرها فى مجلة صبحى الجبار: قصتى، ويوقعها باسم صبرى محمد موسى، وهى الأقاصيص الرومانسية البديعة التى جمعها فى أول مجموعة له بعنوان «القميص»، وكانت مذاقا جديدا فى الرومانسية القصصية رومانسية مجدولة من عناصر الواقع الميلودرامى الحزين، وكانت انطلاقته الحقة بعد ذلك بقليل فى مجلة الرسالة الجديدة التى كانت تصدرها آنذاك دار التحرير للطبع والنشر، ويرأس تحريرها يوسف السباعى يرحمه الله.
كل القصص التى نشرها صبرى فى تلك المجلة الأدبية الحميمة، ثم فى مجلة صباح الخير، مثل: «رجل بلا تفاصيل»، «سهرة بأرخص التكاليف»، «بطلناه»، وغيرها، كانت بداية نضجه الحقيقى، الذى توج بعد ذلك فى «حادث النصف متر وفساد الأمكنة والرجل السبانخ ولا ننسى أن العمل الصحفى قد عطل صبرى لبعض الوقت، وأن تجربته فى كتابة السيناريو السينمائى قد أخذت من وقته الكثير، إلا أنه ونحن جميعا لم نخسر لأن صحافته كانت أدبا نطرب لقراءته وسيناريوهاته كانت تحفا فنية لعل أقربها إلى الذهن «الشيماء» و«البوسطجى»، ومنذ أن قابلت صبرى موسى أول مرة فى العام الواحد والستين وحتى اليوم لا يزال ذلك الشاب - امسك الخشب - المقبل على الحياة برهافة وحساسة وشاعرية هيهات أن تخدشها صخور الواقع.
إبراهيم عبدالمجيد: المستغنى عن كل شىء بالرضا العظيم
- هل تعرف صبرى موسى؟
- طبعا أعرفه.
- هل قرأت له؟
-- قرأت له فساد الأمكنة وحادث النصف متر منذ سن مبكرة ثم السيد من حقل السبانخ. روايات مهمة على جبين الرواية العربية. وقرأت له قصصا وحكايات مثل مشروع قتل جارة وحكايات صبرى موسى ومئات المقالات فى مجلة صباح الخير ورحلات وأعرف عنه أكثر مما تعرف أنت.
- كيف؟ قل لى.
-- رأيت له أفلاما رائعة فى تاريخ السينما المصرية والعربية. الشيماء وقنديل أم هاشم والبوسطجى والقادسية ورغبات ممنوعة وغيرها.
- ما الذى جعل صبرى موسى يتوزع بين هذه الفنون فى رأيك؟
-- صبرى موسى من الجيل الذى فهم الفنون على حقيقتها باعتبارها تجليات لنشاط الإنسان، وليست وظيفة يقوم بها. ومن ثم هو يمشى وراء مواهبه. صبرى موسى من الجيل الذى تعلم قبل ثورة يوليو 1952. جيل الليبرالية المصرية التى كانت تولى وجهها عبر البحر المتوسط فتعرف التسامح وتعرف أن الآفاق مفتوحة أمام الجميع فلم يقف فى وجه أحد كما فعل الكثيرون من أنصاف الموهوبين الذين تعلموا فى سنوات النظام الأحادى النظر وزادوا الطين بلة فاستعانوا بما هو وظيفى وأمنى أحيانا ليكونوا فى النور بينما هم يصنعون الظلام. صبرى موسى كان من هؤلاء الليبراليين الذين يؤمنون بقوة الإنسان وعظمته ولا يشغل نفسه إلا بما هو إنسانى جميل. وكان دائما واثقا بأن قدراته وثقافته هما مفتاح محبة الحياة له كما أحبها ومحبة الناس كما أحبهم.
- يا إلهي؟ كيف لم أعرف ذلك كله عنه؟
-- أنا أعرف ومثلى آلاف لا نراهم لكنهم يسهرون يشاهدون فيلمًا من أفلامه أو يقرأون كتابًا من كتبه.
- وأنت على المستوى الشخصى. بماذا تدين لصبرى موسى؟
-- أدين له بهذه الحرية قى الكتابة، لكنى للأسف لم أتمتع بما يمتع به هو من هدوء. صحيح أننى لا أدخل معارك مع أحد، لكنى إذا خرجت من بيتى لا أرتاح إلا بعد عودتى حين أترك نفسى للموسيقى، وحتى هذه لم تعد تكفى للراحة. صبرى موسى نفسه موسيقى هادئة. حتى فى مرضه لم نسمع منه شخصيا ما يقلقنا. رضا إلهى قل أن تجده فى البشر. كان صبرى موسى مستغنيا بموهبته وثقافته عن كل شيء والآن مستغن عن كل شيء بالرضا العظيم الذى لا يخص به الله إلا أبناءه العظام.
ساهم صبرى موسى فى تحويل قصتين من أعمال يحيى حقى إلى السينما، لتصبحا من علامات السينما الكلاسيكية العربية، هما «البوسطجى» إخراج كمال حسين، الذى حصل على جائزة أحسن فيلم عام 1968، و«قنديل أم هاشم» إخراج كمال عطية، إضافة إلى فيلم «الشيماء»، عن مسرحية لعلى أحمد باكثير، وفيلم «حبيبى أصغر منى» عن قصة إحسان عبدالقدوس، و«الأسوار» عن قصة عبدالرحمن الربيعى، كما أعدت روايته القصيرة «حادث النصف متر» فى فيلمين قصيرين، أحدهما سورى والثانى مصرى، وأفلام «قاهر الظلام» عن قصة حياة عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين، و«رحلة داخل امرأة» و«رغبات ممنوعة»، والمغربى «أين تخبئون الشمس» والعراقى «الأسوار».
لم يغفل اسم أديب وهو يحوّل أحد أعماله إلى السينما، بل أضاف إليها من روحه الهادئة الراضية، ما منح تلك الأفلام، قيمة إضافية، جعلتها تعلو على الحدث، وضيق الزمن، لتصبح من علامات الفن السابع، ليأتى من بعده صبية، ينهلون مما كتب، وعانى، دون أدنى إشارة إلى صانع اللؤلوة الحقيقى، ومكتشفها الأول، وآخرها سيناريست، كنت أعرفه كمتصوف، وقارئ نهم لأعمال صبرى موسى، مفتون بفساد الأمكنة، لكنه عندما سطا على روح النص، وحولها إلى مسلسل، لم يطمع فى شرف أن يأتى اسمه مصحوبا بكاتب عظيم اسمه صبرى موسى.
وفى حوار أجراه الزميل الشاعر أحمد المريخى مع الأديب الكبير قال عن السينما: باعتبارى دارسا للفن التشكيلى، وبدايتى كرسام كنت أحب السينما وأقدر فن الصورة المتحركة حق تقديره، وكان هناك موقف للأدباء من السينما باعتبارها فنا سوقيا يدغدغ الغرائز وليست لها قيمة أدبية، وقد شاع هذا المفهوم بين أدباء الخمسينيات والستينيات بشكل أدى ب«نجيب محفوظ» لأن يكتب للسينما فى الأفلام الأولى لصلاح أبوسيف -سرا- لكننى كنت أدرك أن القطيعة التى كرسها الأدباء لفن السينما هى خطأ كبير أتاح الفرصة لتكريس المستوى المتدنى للكتابة السينمائية.
وكان الشائع بالفعل أن السينما حينما تلجأ لعمل أدبى فإنها تفسده.. ومما لا شك فيه أن عمل نجيب محفوظ فى السينما قد أضاف الكثير إلى أسلوبه الأدبى، كما أن عملى بالسينما فى تلك السيناريوهات جعلنى أكثر تمكنا فى التعبير بالصورة فى مجال القصة والرواية.
هكذا تحدث صبرى موسى
إن مئات الخطايا الصغيرة التى نرتكبها بسهولة ويسر فى المدينة ضد أنفسنا وضد الآخرين تتراكم على قلوبنا وعقولنا ثم تتكثف ضبابا يغشى عيوننا وأقدامنا فنتخبط فى الحياة كالوحوش العمياء. فالمدينة زحام، والزحام فوضى وتنافس وهمجية. ولكنهم فى الصحراء قلة، والخطايا الصغيرة تصبح واضحة تطارد من يرتكبها، ويصبح ضبابها على النفس أشد كثافة وثقلا، بينما تحتاج دروب الحياة فى الصحراء إلى بصيرة صافية نفاذة لتجنب أخطارها. إن الفضائل تمنحهم قدرة على الصفاء، فيمتلكون حسا غريزيا مشبعا بالطمأنينة، يضيء فى عقل البدوى حين يضيع منه الطريق فى رمال الصحراء الساخنة الناعمة فيهتدى فى طريقه، وتجعل قلبه يدق له إنذارًا بالخطر وهو نائم فى ليل الصحراء السحرى حينما يقترب من جسده عقرب أو ثعبان».
طبيعتى لا تميل إلى الثرثرة
فى الوقت الذى كتبت فيه القصة القصيرة فى أعوام 1950، 52 كان التيار القصصى السائد يتمثل فى رومانسية يوسف السباعى وإحسان عبدالقدوس وواقعية محمود البدوى وأمين يوسف غراب، وكان هناك محمود كامل المحامى بأسلوبه المعروف وكانت هذه التيارات جميعا قد بدأت تحاول التمرد على التيار الرومانسى الذى بدأت به القصة القصيرة فى أوائل الأربعينيات، وخلط هذا التمرد الرومانسية بالواقعية، حتى قامت ثورة يوليو، وهى تحمل فكرة العدل الاجتماعى وإنصاف الطبقات المطحونة، وبدأ تيار جديد من الواقعية الاشتراكية يسود القصص المنتج فى تلك الأيام. وكنت ألاحظ أن القصص القصيرة أو تعبير القصة القصيرة لم يكن متحققا، فأحيانا تطول القصة وتمتلئ بالأحداث وتخرج فى كثير من الأحيان عن وحدة اللحظة ووحدة الشخصية، وتكاد تقترب من الرواية، ولاحظت أيضا فيما أكتب الميل إلى التركيز والتحديد والارتباط بلحظة زمنية مختارة وموقف نفسى محدد تواجهه الشخصية الإنسانية.
لعل هذا قد حدث بحكم طبيعتى التى لا تميل إلى الثرثرة، وطريقتى الذهنية فى مواجهة الحياة والتى تميل إلى التوقف عند التفاصيل الصغيرة، وكثيرا ما كنت أرى فى هذه التفاصيل الصغيرة الدقيقة عوالم حافلة بالعناصر الدرامية.
العنوان الصحفى الطويل المثير
أما عن الحكايات؟ كان للعمل الصحفى تأثيره الكبير فى توافر العناصر القصصية بحكم تنوع البيئات والأمكنة التى كنت أتحرك فيها، ففى فترة من الفترات بدأت فى العام الأول من الستينيات كنت كثير السفر، بل إننى أيضا فى كثير من الأحيان كنت أسافر دونما سبب سوى فكرة الانتقال والرؤية أى السفر نفسه: مثلا كثيرا ما كنت أتخير عشوائيا بلدا من البلاد المصرية الموجودة فى دليل السكك الحديدية! بلدة أو قرية أو مركزا من المراكز التى يمر بها القطار، فأقضى بها يوما أو يومين حسب إمكانات تلك البلدة، وأذهب إلى الأسواق، وأحتك بالناس، وأستمع إلى حوارات المقاهى، وأتأمل نماذجها البشرية. وغالبا ما كنت أعود من تلك الرحلة بقصة أو بعديد من القصص. تلك كانت فترة الاختبار والتجريب وقد أنتجت أكثر من مائة قصة اخترت نصفها تقريبا، وأصدرتها فى كتاب عنوانه «حكايات صبرى موسى».
واخترت هذا العنوان بسبب الأسلوب أو الأساليب التى تعددت وتنوعت فى سرد تلك القصص. فبعضها كتب بطريقة المسرح، وبعضها كتب بطريقة السيناريو السينمائى، وبعضها كتب بطريقة النادرة العربية، وبعضها كتب بطريقة الراوى الشعبى، ولكنها كانت تتميز جميعا بالعنوان الصحفى الطويل المثير مثل: الخباز وزوجته التى تخرج كل يوم أو طويل عريض على الفاضى أو الأفندى ضحك على الحصان وهكذا.
وكانت تتميز أيضا بالسرد البسيط المركز الذى يلخص ويومئ ويوحى ويشرك القارئ فى استكمال الكثير مما هو غائب عن الكتابة، وكانت تتميز أيضا بتدفق الشخصيات والوقائع كموج زاخر فى بحر الحياة المصرية العارم، وقد حاولت أن أقدمها فقلت إنها حكايات دنيوية مزدحمة بالحوادث والمفاجآت، حكاية للضحك، حكاية للبكاء، ونسبتها إلى نفسى باسم حكايات صبرى موسى لأنها كانت تجربة فى الكتابة غير مسبوقة بنموذج يقاس عليه.
اکتشاف جذور القصص العربى
تجنبت أن أسمي الحكايات قصصًا حتى أجنب النقاد الغرق فى إثبات أنها ليست من النوع السائد القصص القصيرة. أو أنها خرجت عن التقاليد المتبعة فى السرد القصصى أو أنها، أو أنها.. وتركت لهم الفرصة للنظر فى هذا الشكل كما هو، ومحاولة تصنيفه.. وقد نجحت تلك الخطة فعلا فى إثمار عدد من التحليلات والدراسات التى كتبها كتاب أو نقاد متمرسون، مثل الأديب يوسف الشارونى الذى نسبها إلى النادرة العربية، وأعتبرها تحديثا لذلك الفن الأدبى، ومثل الدكتور صبرى حافظ الذى اعتبرها اكتشافا لجذور القصص العربى، الذى كانت تفتقده القصص القصيرة العربية التى استمدت أشكالها الشائعة من القصص الغربى ومثل الدكتور مجدى توفيق، الذى اعتبرها كتابة ضد الكتابة، التى يتبادلها المثقفون ولا يستطيع العامة التى تدور حولهم القصص أن يشاركوا بقراءتها، فهى تستمد أسلوبها فى السرد والحكى والتنوير من نفس الأساليب، وبنفس الطريقة التى يتداولها العامة من الناس، فهى كتابه بهم ولهم. ومثل دراسة الأستاذ كمال النجمى التى تؤكد أنها قصص قصيرة مائة فى المائة بل إنها من أحسن القصص القصيرة التى تنشر الآن.
تطور الصحافة وانتشارها
فن القصص القصيرة نشأ أولا بسبب الصحافة ورغم ذلك فقد ظل فنا ثقافيا، ولكنه فى أساليبه وطريقة سرده ظل متعاليا ومنفصلا عن مستويات القراء، ومع تطور الصحافة واتساع انتشارها بدأت تتخلى عن أساليبها اللغوية التى اكتسبتها من بداياتها بالشعر والقصة والمقالات الأدبية، لقد أصبحت خبرية وأصبحت مباشرة فى التقاطها للوقائع والحوادث ونقلها إلى الناس، واستطاعت أن تخلق لنفسها تلك الأساليب الحديثة السريعة، التى تحقق سرعة توصيل الرسالة. لقد استطاعت تلك الأساليب التى تعتمد على السرعة والتركيز المشوق أن تؤثر فى الأدباء الذين يكتبون القصص الأسبوعى للصحافة. ونجح بعضهم فى أن يمزج تلك الأساليب بالأدب فاحتفظ بالفن اللغوى، وتخلص من الجزالة والإطناب والثرثرة اللغوية التى لا طائل من ورائها.
المشهد الروائى
المشهد يثير التفاؤل، فهناك فى مصر أجيال روائية تتوالد بغزارة وتبدع تحفا فى الرواية الحديثة، وأنا أقرأ لهم بمتعة شديدة فى المسابقات التى ادعى للتحكيم فيها سواء فى هيئة قصور الثقافة أو فى مسابقات المجلس الأعلى للثقافة، وعذرا لأن الأسماء تستعصى على ذاكرتى العجوز الآن. أما المشهد الروائى فى العام العربى فهو مذهل حقا، وأكاد أقول إنه يتقدم كثيرا على ما يقدمه الغرب.. المشكلة أن الغرب يملك آلة دعائية هائلة تمثل ثلاثة أرباع الإبداع الأدبى هناك. فالناشر فى الغرب ينفق على الدعاية عشرات الأضعاف عما يعطيه للكاتب، بينما ناشرنا العربى لا يتعامل مع هذا الجانب أبدا، ويترك أمر الدعاية للكاتب نفسه، والكاتب مسكين فهو لا يتقاضى أجرا لما يكتبه.
الصحراء الحقيقية
عشت طفولتى فى صحراء صغيرة.. هذه الصحراء الصغيرة كانت تضم حقولا حافلة بالأشجار والزرع، وتضم فرعا رئيسيا من النيل، وتضم مساحة هائلة كبحيرة، ويحدها من جانب: البحر المالح، هى جزء من الدلتا، أو هى طريق الدلتا الشمالى الشرقى، وكل ما احتوته من زرع ومياه عذبة أو مالحة منتزعة من تلك الصحراء. لقد عشت فى وسط مائى، ولكن الرمل الأصفر الممتد بلا نهاية كان يحيط بى ليذكرنى بأننى رغم هذا كله فى صحراء، ولعلك تلاحظ أن هذه الصحراء الصغيرة تحيط بغالبية البلاد المصرية جميعا حتى فى داخل الدلتا.. ولهذ كانت دهشتى الكبرى وكان انفعالى حينما رأيت الصحراء الحقيقية: الأصل: بجبالها وهضابها وسهولها ووديانها وصخورها ورمالها، وأيضا بنوع الحياة الشاقة المحفوفة بالمخاطر التى يمارسها نوع مختلف من البشر. وكانت هذه الصحراء هى وجبل الدرهيب.
من حوار أجراه الشاعر والصحفى الراحل فتحى عامر مع الروائى الكبير


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.