من نحو عشر سنين تقريبًا دخلت مبنى ماسبيرو ولقيت الدنيا مقلوبة.. والزميل ياسر رزق يبحث عنى، وأول ما شافنى سألنى، إيه حكاية صاحبك الملحن اللى اتخطف في بيروت، ومن غير ما أفكر هو مين عرفت إنه محمد رحيم. كانت الأنباء المتواترة تؤكد أن «قبضاى كبير» احتجزه في مكان مجهول، وأنه لم يعد في الموعد المحدد لطائرته، وأن المصادر تتحدث عن رجل «مفتري» يعشق المطربة «إليسا» يظن أن رحيم على علاقة خاصة بها، وأن رجاله اختطفوا رحيم لإجباره على تطليقها. رحيم رجل متزوج، ويعيش حياة مستقرة مع زوجته وابنتيه، ومجرد نشر أخبار من هذا النوع سوف تقلب المنزل وحياته كلها رأسًا على عقب، والحل الوحيد هو نشر الحقيقة كاملة، ولأننى أعرفه وأعرف أن علاقته بإليسا لا تزيد على علاقة مطربة بملحن ناجح، كنت على يقين أن الأمر فيه حاجة مش حلوة. اتصلت برحيم، والمفاجأة أنه رد، وأخبرنى أن الأمر سينتهى خلال ساعات، وأنه عائد إلى القاهرة، وأن الشائعات إياها ليست صحيحة على الإطلاق، وأنه في مشكلة مع أحدهم، لكن شيئًا بخصوص إليسا ليس صحيحًا، ورجانى بالتصرف، وهو ما حدث. بعدها بسنوات، وقبل وفاة الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودى بعام تقريبا، كنت في منزله على عزومة غداء، وشكى لى من رحيم، أنه مثل سمك «القراميط» مزفلط ومش ممكن تمسكه، ولا حد يقدر يملكه، ولما سألته زوجته الإعلامية نهال كمال عن معنى كلمة «لبناني» التي يرددها دوما بعد كل شكوى من رحيم، ضحك، وأضاف «أصله مولود في لبنان، ماحدش يقدر يلومه يا جماعة». كان الخال ينتظر رحيم ليذهب إليه في بيته في الإسماعيلية، حيث يقيم، للانتهاء من ألحان مسلسل «الوسواس» الذي تعاقد الخال على كتابة أغنياته، واشترط على المنتج أن يلحنها رحيم، ويغنيها على الحجار، لكن رحيم كعادته - خلف المواعيد - ووضع الخال في زنقة لم ينقذه منها سوى الموسيقار أمير عبدالمجيد، بعدها فوجئت بالخال يعمل مع رحيم على مجموعة أغنيات، وكنت ظننت أنه سيقاطعه، فأخبرنى أنه يحبه ويعتبره أمهر الموسيقيين الموجودين وأكثرهم فهمًا، وأنه حافظ مزيكا كويس، لكنه يدرك أن سر نجاح رحيم مع مطرب ومطربات بيروت، وأن هذا يجعله دائما «عين في الجنة وعين في النار»، يريد أن يلحن كل ما يعرض عليه في القاهرة لكنه لا يستغنى أبدًا عن نجاح بيروت وفلوس الإنتاج بتاعتها. رحيم الذي أعرفه، لا أستطيع أن أغضب عليه ولا أزعل منه، موهبته غير المحدودة تجعلنا - كل من يعرفه - نغفر له مواعيده المقلوبة، والمضروبة معًا. الموعد الوحيد الذي يحافظ عليه رحيم، هو موعد صلاة الفجر ودعوة الأصدقاء إليها، بعد ذلك لا شيء يشغله سوى أن يختفى ثم يعود ليظهر هو الوحيد في مصر الذي ظل لسنوات يجمع بين عمرو دياب ومحمد منير، هو يريد «القمة»، ملحنا وموزعا ومطربا، وشاعرا لو استطاع، ولِمَ لا، فهو ابن شاعرة معروفة - رحمها الله - كان لها الفضل الأكبر في أن يكون هذا الموهوب موجودًا. منذ أيام سافر رحيم إلى باريس ليتم تكريمه من قبل جمعية «الساسيم»، المنظمة الأم التي تتولى تحصيل حقوق الإبداع للمؤلفين في العالم، واختياره مندوبًا عن الشرق الأوسط، وهى المرة الثانية في تاريخ الملحنين المصريين بعد عبدالوهاب، ذهب رحيم ونال وسام التكريم وسط مجموعة من أغزر ملحنى العالم، وعاد ليكمل تسليم أغنيات مسلسل «المغنى» لمحمد منير!! هو الأغزر إنتاجا بعد أبناء جيله رغم أنه لم يكمل الأربعين بعد، وهو الأشهر والأغلى سعرا، نعم، فهل ذهب رحيم إلى هذه القمة بالصدفة؟! أبدًا. كان رحيم حينما شاهدته لأول مرة في شارع جامعة الدول العربية بصحبة الشاعر الراحل عبدالعزيز عمار - بلدياته - مجرد طالب في كلية التربية الموسيقية، نجحت أولى أغنياته التي كتبها زميله وبلدياتى - محمد رفاعي - على حنجرة عمرو دياب، لكنه كان رغم تلك الأغنية المحظوظة لم يشعر بأنه ملك الدنيا وما فيها، كان يبحث عن «سكة»، كنت تشعر أنه بعيون زائغة يبحث عن شيء مش موجود. بعدها بشهور غنت له «نوال الزغبي» من كلمات صديقى خالد منير «الليالي»، وبعدها توالت طوابير المشاهير.. سنة ورا سنة.. نبيل شعيل، حسين الجسمي، نانسى عجرم، حمادة هلال، محمد محيي.. ورحيم لا يهدأ، فجأة يتحدث الشارع عن ممثلة مغمورة لا علاقة لها بالغناء راكبة عجلة وبتغنى «طب ليه بيدارى كده».. وبقت ليلة.. لكن أحدًا لم ينتبه لما كان يفعله رحيم، كان يريد أن يقول للجميع، إنه مستعد يلحن الجورنال زى بليغ، وممكن يخلى «الحجر يغني»، هو تلميذ محمد فوزى في البساطة، وتلميذ بليغ في «الحارة المصرية». تربى رحيم، مثل كل أبناء المدن، هو من كفر الشيخ لكنه لم يكن فلاحًا، والدته الراحلة الشاعرة إكرام العاصى لم تكتف بأن جاءت له بمن يعلمه الموسيقى حينما لمحت موهبته ولا بمن يدرس له القرآن.. ولا بشراء الآلات التي صار يتقن العزف على أكثر من واحدة منها.. لكنها غادرت كفر الشيخ بحالها لتعيش في القاهرة بجواره، وهو يدرس في «التربية الموسيقية»، لكن رحيم الذي يختفى كثيرًا لم يترك موالد كفر الشيخ تذهب بعيدا عنه واختزنها في عقله الصغير، وحين أراد أن يستخدمها في «حين ميسرة» جاء بصوت ممدوح بيرم، وكذلك فعل مع أحمد سعد في «مملكة الجبل» ثم مع محمد منير في «يونس»، لكنه يحتاج إلى براح أكبر، فقرر أن يقدم تجربة صوفية خالصة مع مشارى راشد، ومن خلال «ألبوم ديني» يعده منذ سنوات، ولأنه يعمل بنفس الطريقة التي بدأ بها، هو لا يخطط لشىء بعينه، فقط يحدد هدفه ويجرى خلفه، قرر أن يكون رجل الدراما، إلى جوار عمار الشريعى، وفى حياته، وهكذا فعل، قرر أن يكتب الموسيقى للسينما وفعلها، قرر أن يغني وفعل، قرر أن يوزع موسيقي بنفسه وفعل، ثم قرر أن يعود ملحنًا فقط ويسند أعماله للآخرين لتوزيعها، المهم أنه يعمل، في منزله بحدائق الأهرام، أو في مكتبه بالمريوطية، أو في شقة أحد أصدقائه، وفيما الجميع في انتظاره بأحد الاستديوهات، ستجده وقد حمل حقائبه وطار إلى بيروت، متى فعل ذلك، مش مهم، المهم أنه سيخبرك «يا حبيبي، يومين أخلص فيهم شغل مع أختك نانسي، وأرجع، وأول ما أرجع هكلمك، ونكمل الشغل بتاعنا». أول ما لحن رحيم من كلماتى كان أغنية اسمها «شجر الترمس»، وكان من المفترض أن يغنيها منير، لكن مطربًا من الصعيد أيضًا اسمه «على حسين اختارها لألبومه»، وبعدها عملنا معًا في «والله لك شوقة» التي غناها رحيم نفسه، وبنفس الحماس الذي يقابلنى به، أو في أي مكالمة هاتفية.. «بكرة نتكلم ونقعد نخلص غنوة فلان»، يتحدث مع المنتجين والمطربين الذين ينتظرونه، وقطعًا يغضبون ويقررون عدم التعاون معه مجددًا، لكنهم وبمجرد ضغطة على «الريموت»، تخطفهم جملة مدهشة في لحن أصالة الجديد «منازل» أو «60 دقيقة حياة»، أو «تتر المغني»، أو مع بوسى في «الخانكة»، أو تداهمهم شيرين أو تامر حسنى أو سميرة سعيد بموسيقى تشبه «الألماس»، فإذا بهم يبتسمون، ماحدش غيره يعمل كده. هذا وجه، وجه من وجوه متعددة لموسيقى مصرى تعلم الصيد مبكرًا في بحيرات كفر الشيخ، ربما في تلك المنطقة التي يلتقى فيها «البحر الأحمر الهائج.. بالمتوسط الغامض»، وما بين جموح «الجيتار.. وغموض البيانو» يقف هو ليلوح لمحبيه، استنونى «مشوار لحد بيروت وراجع».