إذا كنت غريبًا فى الإسكندرية، تزورها للمرة الأولى، تتمسك بآخر محاولاتك فى أن تكون هادئًا، وهاربًا من المسئوليات ومعارك الحياة الطويلة التى تلاحقك حتى فى سريرك، ستقول: «فيه حاجة رايقة فى الناس والسواقين والهواء».. وهى السمة الواضحة فى ألبوم صور التقطته الزميلة أسماء وجيه ل«رويترز». يتعامل علاء خالد، رئيس تحرير مجلة «أمكنة»، مع هذه الملاحظة بتواضع، يضع أمامها علامات تعجب، ويعتبرها مجاملة عابرة من شخصيات عابرة على المدينة الغارقة فى الهدوء، و«الروقان»، الذى يتحول إلى سمة شخصية تسيطر على كل من يزورها. يحاول «خالد» أن يضع تفسيرًا مستعينًا بخبرته فى الحياة هناك: «هل هذا الشيء الرائق هو ميراث قديم له صلة بالتعدد الذى عاشته الإسكندرية، هناك مكان خالٍ للآخر، ينعكس على السمات الشخصية، كما ينعكس فى صور التعامل، ويترك بصمته فى الهواء». هل هو الهدوء الذى تعكسه المدينة؟ فمهما تعالت أصواتها هناك حد، وهو البحر، ليس له صوت، سيبتلع كل الأصوات ويعيد هضمها، وبعثها فى صوت واحد مكرر بلا صدى، مما يسمح بوضوح الصوت الداخلي. هل هو المكان القديم الذى كانت تُرى منه الإسكندرية كمكان للاستجمام، وأخذ هدأة مع النفس، فهناك من سيحمل عنك نفسك المتعبة، وستلتقى بها على أرضية جديدة، أغلب الأفلام كانت ترى الإسكندرية من هذا المنظور، المكان البعيد عن العمل، البعيد عن التعب، البعيد عن الصراع، أى أنه مركز للهروب من الحياة العملية إلى اللاشيء. لهذا السبب وحده، الإسكندرية استراحة المحارب أو العاشق أو المهزوم سياسيًا. وهذه محاولة جديدة للتفتيش فى الأسرار النفسية للإسكندرية. نجيب محفوظ يحمل تفسيرًا روائيًا يكشف عنه فى شخصية عيسى الدباغ، بطل رواية «السمان والخريف»، الذى يعيش أزمة، ويبحث عن مكان يستوعبه، ويلتقى فيه مع أحلامه ويجددها، فالإسكندرية هادئة ومجهزة لاستقبال الأحلام الجاهزة، وتحديدًا فى فندق «البوريفاج»، الذى تصرّ كل الأفلام على أن من يعتبر إسكندرية مصيفًا لا بد أن يصبح من نزلاء هذا الفندق بحديقته الكبيرة وكراسيها «الخوص»، وحديقة الأسماك والأبواب الزجاجية، وبالمناسبة، هُدم فى أوائل الثمانينيات، ولكنه لا يزال فى شرائط السينما، المعروضة يوميًا على قناة «روتانا كلاسيك». التفسير القريب من طبيعة الإسكندرية تاريخى، ويمكن الاقتراب منه بسؤال، لماذا تراجعت مدينة البحر والأحلام من عاصمة ومركز للسلطة، التى منحها إياها محمد على الكبير، وأصبحت درجة ثانية بعد القاهرة؟ انسحبت الإسكندرية إلى خانة الابن اللعوب، الفنان، المغرور الذى لا يشعر بالتقدير، الغارق فى ذاته، ويعيش على ميراث قديم خسره، وهى بالمناسبة شخصية كل «الإسكندرانية» مهما خرجوا وسافروا وتنقلوا، وتركت للقاهرة خانة الابن البكر، الكبير، رب البيت، المشغول بكل التفاصيل التافهة، ويحب التعب. حين أصبح نجاح المدن يقاس بقدرتها على الصراع والدخول فى معارك تسحب روحها، وتحوّل أهلها إلى جثث متعفّنة وموتى، لذلك انسحبت الإسكندرية.. لأنها تحبّ الحياة. هل تقترب من الإسكندرية أكثر؟ الإسكندرية تشبهك، فى عالم آخر لن تكون مدينة مرّت عليها كل الأديان والثقافات والغزاة والطغاة، إنما بنت جميلة تحب أن تمشى معها تحت المطر.. المأساة - فى هذه الحالة- أنك ستفتقد ليل الإسكندرية الذى تحب أن تمشى فيه مع صديقتك تحت المطر. مدينة البحر لها بداية ونهاية، وعمود فقرى واضح وشريط مائل، هى عبارة عن ثلاثة شوارع وليست متاهة مثل القاهرة (شارع الكورنيش، وأبو قير، ورشدي)، أو كما يقول «خالد»: «يمكن أن تشعر بها داخلك، أن تتبادل سيرة حياتك مع سيرة حياتها، وكلاهما سيضيء الآخر. كل من مر بها صنع له سيرة داخل سيرة المدينة». الإسكندرية تشبه البشر، ليست مدينة بالضبط.. ولكن شيء أكثر وأوسع وأعمق من ذلك. الإسكندرية حالة.