اللى ماراحش طلعت حرب مش مثقف.. واللى ماقعدش على زهرة البستان مش مخاوى جنية.. الكلام.. ده اللى طلعنا لقيناه... وده الدرس اللى حفظناه... وده العمر اللى ضاع وإحنا شايفينه.. وبنضحك ومش فاضل منه غير شوية ذكريات وكام قصة وحكاية فى كتابات مكاوى سعيد وخالد إسماعيل وإبراهيم عبدالفتاح. زهرة البستان ليست مجرد مقهى فى ميدان طلعت حرب.. لكنها «البوابة» التى مر منها محمد عفيفى مطر وإبراهيم عبدالمجيد وصنع الله إبراهيم، وخيرى شلبى وإبراهيم منصور.. هى «الرحبة» والبراح اللى ساع مجدى الجابرى وخالد عبدالمنعم ومحمد الحسيني، ويسرى حسان ومحمود الحلوانى ومصطفى الجارحى وطاهر البرمبالى.. عشرات من جيلى والجيل اللى قبلى إنهم ليسوا مجرد أشخاص.. أو أسماء تحمل تاريخ حامليها وتلقى بها على صفحات بيضاء اسمها الصحف.. هى أعمارنا.. أجمل أعمارنا.. نزواتنا.. خيباتنا.. أفراحنا القليلة وتجاربنا العاطفية الفاشلة. يمكننى الكتابة حتى عشرة أيام قادمة عن «زهرة البستان» لكننى لن أفعل.. بى من الوجع ما يكفى.. فقط أشير إلى أنه المكان الذى وجدت أحمد إسماعيل يجلس فيه لأول مرة عام 1989.. كان مجرد فتى نحيل يبتسم بمودة للعابرين وفى حجره «عود». عرفت أنه من أهل الموسيقى.. وحتما سيذهب بعد قليل إلى أتيليه القاهرة ليغنى لنفر قليل هناك.. وحتما هو يغنى أشعارًا ليست مثل أغنيات الراديو والكاسيت.. لكننى لم أتخيل أبدًا أنه «حارس البير».. بير فؤاد حداد الغويطة. كنت مثل كل «الصعايدة» القادمين للبحث عن فرصة تحت عامود فى شوارع بنت المعز.. أحفظ مسحراتى عمنا فؤاد من الراديو.. من صوت سيد مكاوى.. وكنت قد حفظت الحضرة الذكية من قريبى د. أحمد أبورحاب.. فقد قرر أن يحفظها أطفال العسيرات الذين وقع عليهم اختياره لتكوين أول فرقة كورال أطفال فى قرية بالصعيد. وكان عمنا خيرى شلبى قد أهدانى أحد دواوينه بتوقيع خاص منه.. ما زلت أحتفظ بالديوان والتوقيع حتى الآن لكننى لم أكن قد وقعت فى غرامه وصرت من مريديه بعد.. كان جابر أبوحسين هو «شيخى» والأبنودى وحجاب وفؤاد نجم رفقاء طريق.. كنت أرى صعوبة فى «فهم» فؤاد حداد. فى تلك الليلة التى طالت حتى صباح اليوم التالى.. سافر بى أحمد إسماعيل إلى غزة وهو يغنى «ازرع كل الأرض مقاومة».. وفتح لى «شبابيك على نيل الشعب» وهو يغنى «يا شعب يا معلم».. لكن تحفته «مافيش فى الأغانى كده ومش كده» ظلت تلاحقنى لأيام.. وكلما رأيته أستعيد غناءها.. وكنت أتوقف كثيرا أمام: «يا مصر اللى جايبة الشجر من زمان.. وشايلة الضفاير على البرتقان!». ومرت أكثر من أربعة أعوام وصدر لى أول ألبوم غنائى مع على الحجار.. وصرت مسكونا بوسط البلد.. أنتهى من عملى فى الخامسة بشارع ماسبيرو ثم أذهب إلى المقهى.. وأظل حتى الصباح.. أنتقل من شارع إلى آخر ومن «ركنة إلى أخرى».. من ندوة.. لقعدة.. لحفلة.. لرحلة سفر.. وفى كل مرة آراه أسمع منه لحنا جديدا لكلمات جديدة لفؤاد حداد. عرفت أنه من الجيزة.. من ميدان الجيزة تحديدًا حارة صغيرة فى شارع زحمة بالقرب من مستشفى أم المصريين. وأنه ابن جيل خالد يوسف وجمال بخيت واتحاد الطلبة.. وأنه قاسم أساسى فى ندوات ومؤتمرات كل قوى اليسار.. وأنه حاول الغناء وسجل ألبومًا «على قده» به أغنياته الخاصة.. لكن هوجة الكاسيت و«فى السكة شفت اتنين ماشيين مع بعضهم» لم تسمح له بأن يمر. سنوات والرجل يمد يده فى «شجرة فؤاد حداد»، وتلامذته، ويعصر لنا «قمر دينه».. نفطر ونتسحر.. والشهرة تبتعد عنه.. ترفضه.. هو فقط فى كراريس المثقفين فى القاهرةبيروت وعمان والجزائر وفلسطين التى غنى لها كثيرا.. ودون أن يقصد تسللت «مافيش فى الأغانى» إلى أحد أفلام صديقه خالد يوسف فى مشهد يجمع إبراهيم عيسى ومى عزالدين، ثم نجحت أغنياته فى «دكان شحاتة» ليسأل الناس عن هذا الصوت.. وعن سر هذا اللحن المختلف.. عن سر ذلك الوتر الموجع.. فكان حتما أن يكشف خالد يوسف عنه فى «كف القمر» بواحدة من أشهر وأحب أغنيات جيل كامل اسمها «يا طوبة خضرا.. وطوبة حمرا.. وطوبة.. البنّا يضرب فيها بالموال». نجاح «كف القمر» وأغنيته.. سبقه وجود مكثف لأغنيات أحمد إسماعيل بعد انفجار 25 يناير.. فالجماهير التى لم تكن تعرف يعنى إيه ثورة لم تكن تعرف ماذا تغنى فى الميدان، ووجدت نفسها مرغمة تذوب فى ألحان أحمد إسماعيل «ارفع راسك فوق.. أنت مصرى».. والشيخ إمام ومارسيل خليفة ومحمد منير وعلى الحجار.. وكالعادة كان أحمد إسماعيل بشحمه ولحمه فى الميدان.. ومن الطبيعى أن تبحث برامج الفضائيات عنه، وظن الرجل أن الجماهير قد عرفت طريقها أخيرًا إليه.. لكن الجماهير عادت بإرادتها أو رغما عنها إلى بيوتها.. وتركت الميدان ومصر بحالها للإخوان المسلمين الذين لا يعرفون أحمد إسماعيل ولا يحبون أغنياته لأنها لا تشبه سوى «الرصيف اللى فى السيدة».. وعاد الغناء إلى موقفه المعتاد فى مواجهة الإخوان.. وكره الناس الثورة واسمها وأغنياتها. لكنهم قطعًا أصحبوا يعرفون أحمد إسماعيل وكرسيه الخالى على ناصية شارع نخيل فى وسط البلد.