من يتوقف أمام إعلان "الدوندو" دون استعادة التاريخ الطويل لعلاقة الرجل ب"صدر أمه" لن يفهم القصة. فى إعلان "جهينة" الذى أغرق القنوات الفضائية، واستفزّ "السوشيال ميديا"، وهاجت ضده ناشطات حقوق المرأة لاستعماله لفظ "الدندو" على لسان أطفال. فى إشارة لصدر الأم، ظهر، خلال ثوانى الإعلان القليلة، أطفال رضع يتبادلون الحديث معًا، بكى أحدهم لأنه فُطم من الرضاعة (فُطم من تناول اللبن من الدوندو) وهو اللفظ الذى حرَّفته الشركة، فالرضع يقولون ألفاظًا تشبهه فعلاً، وهى "دودو" و"زوزو".. بسبب تعثّر النطق، وليس لأى أسباب أخرى. لعبت "جهينة" على وتر الحنين، وهو الذى لعبت عليه "فودافون" أيضًا فى إعلان النجوم، لكن ولأن كل سلعة تعرف ما يريده جمهورها، وتذهب إليه، كان "الدوندو" من نصيب شركة لبن الأطفال لعدة أسباب، أولها أنّ المستهدف أم الطفل وأبوه، وليس الطفل نفسه، ولذلك كان لا بدّ من لفظ يجد مكانًا فى ذاكرة الاثنين، وهى استراتيجية تسويقية تكسب أرضًا جديدة يوميًّا. لم يستند الإعلان فقط إلى "قلة الأدب" كما وصفه البعض، ولم يضع فى حساباته "إهانة المرأة" فقط.. التفكير الذى لجأت إليه ناشطات حقوق المرأة، إنما كانت صياغة كلماته، ومشاهده على أساسين: الأول: إعلاني، قائم على الجذب كما يدرس طلاب قسم الإعلان بكليات الإعلام، ونجح فى تحقيق انتشار واسع هو ما خطَّطت للوصول إليه، والدليل مقارنته بجميع إعلانات "جهينة" السابقة. الثاني: وهو المقصود هنا، نفسي، يتناول أكثر من موضوع طبى وعلمى بشكل ساخر. الرضاعة الطبيعية ونفسية الطفل دراسات حديثة أجريت فى إحدى جامعات لندن عن ربط الصحة النفسية للمراهقين وبين الرضاعة الطبيعية، وكانت العينة 4500 مراهق ومراهقة، أثبتت الدراسات أن الأطفال الذين كانت رضاعتهم طبيعية لمدة عام أو عام ونصف العام أكثر إيجابية وطاقة وتفاعلًا مع الآخرين عكس الذين رضعوا صناعيًا، أو فطموا مبكرًا، والسبب الطبى أنه خلال الرضاعة من صدر الأم يتم إفراز هرمون "الاكيتسون"، المعروف بهرمون الحب والحنان، الذى يمنح الطفل شعورًا بالأمان والثقة، والمعروف أن الطفل، الذى حصل على حصته من الرضاعة الطبيعية، يكون أفضل صحة، ونموًا من طفل لا يرضع، مشوَّه صحيًا.. للفطام المبكر أذى لا يعرفه إلا من جرَّبه. تؤكد الدراسات أن اللبن الطبيعى يرفع مقاومة الطفل للأمراض المعدية لأنه يحمل أجسامًا مضادة للفيروسات ومقوٍ للمناعة، وغنى بالبروتين، الذى يسهل عملية النمو، ما الفرق بينه وبين لبن "العلب"؟ لبن الأم معقّم، يقى الطفل من النزلات المعوية والإسهال والجفاف، وهناك دراسة قارنت بين منَ يرضعون ألبانًا صناعية، ومثلهم يرضعون رضاعة طبيعية، وخرجت بأن الذين يرضعون طبيعيًا أقل عرضة للإصابة بالسكرى والضغط والأمهات اللائى يرضعنّ أقل تعرضًا للإصابة بسرطان الثدى والرحم، وهو ما يفسّر حملات التوعية الغربية لتشجيع الرضاعة الطبيعية. وضع سيجموند فرويد جزءًا كبيرًا من عمره رهن نظرية النمو، والعلاقة الجنسية بين الطفل وأمه، ربما تعتبر ما يقوله تخاريف لا تناسب مجتمعًا إسلاميًا، أو شخصًا سويًا.. هذه وجهة نظرك، لكن عالم النفس الكبير شغل الدنيا بكتاباته، وتحليله النفسى للرضيع، وأمه، وساهم فى الزخم العلمي، الذى لا يزال يدرس إلى الآن فى أقسام علم النفس والفلسفة والطب، ويستحق نظرة. يؤكد "فرويد" أن النمو الجنسى يبدأ من فراش الطفل الرضيع، ويمرّ بمراحل "تفاعل ولذة" حتى يصل بالطفل إلى النضج الجنسى فى المراهقة، تدلّ سيكولوجية نمو الأعضاء التناسلية على ما هو أعم من الاتصال الجنسي، ولذلك يقترن بالبحث عن اللذة، وخاصة الحسية. يعتبر "فرويد" الحياة رحلة بحث عن لذة.. فالعالم بالنسبة له جنسى بحت، يبدأ من الفراش وينتهى إليه. يتركز النمو الجنسى للطفل فى ذاته، الطفل نفسه نقطة إثارة جنسية، وجسده يشمل مناطق معيّنة تؤدى إلى هذه الاستثارة، وتتطوّر المناطق تبعًا لنمو الطفل. الصدمة أن تعرف أن الإثارة الجنسية تبدأ من الفم، حيث الرضاعة، وتتطور إلى الشرج قبل أن تنتقل وتستعمر باقى الأعضاء التناسلية، وتظلّ كامنة إلى سن الخامسة، حتى يصل الطفل إلى النضج الجنسي. بالنسبة إلى "فرويد"، الذى يمكن أن تعتبر ما يقوله تحليلاً وتشريحًا نفسيًا لإعلان "الدوندو"، الأكل والراحة التى تأتى بعده، والإخراج، طاقة جنسية مكبوتة. قصد "فرويد" أن مراحل النمو الجنسى تبدأ من الطفولة، ولذلك فأطفال إعلان الدوندو لديهم طاقة مشحونة ينتظرون تفريغها فى السن المناسبة، لكنها موجودة، وتنقسم إلى مراحل تبدأ بالفم أيضًا، يشعر الطفل باللذة عندما يمسّ شفتيه بأى شيء، يرضع ثدى أمه، يرضع إصبعه، يمتصّ ملابسه، يلفت نظره أى شيء بارز أو أجوف أو مفتوح، وتدخين السجائر – الذى يتحمّس له الشباب لأنه يمنحهم إحساسًا بالرجولة المفرطة – ليس إلا تطوّرًا للرضاعة من الصدر أو "البزازة"، طاقة جنسية.. وتفريغ شهوة تبدأ من الفم. وثبت علميًا أن الفطام المبكر يؤثر على شخصية الفرد، يفقده الثقة فى نفسه، وجزءًا من رجولته، ويسلبه القدرة على الاعتماد على نفسه.. فيعتمد على غيره فى كل شيء.. هذا بالضبط ما قاله "فرويد"، إله الطب النفسي، ويتطابق مع الدراسات الحديثة، التى تقول إن المفطوم مبكرًا "عاجز" فى الكبر. من قبل كل هؤلاء، جاء القرآن بآية تقول: "وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَٰلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا االلهَّ وَاعْلَمُوا أَنَّ االلهَّ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ". المُعلن لديه عقدة "صدر الأم" الطرف الثالث الذى لا بدّ أن يجلس على الشيزلونج بعد الأبوين، والطفل، هو المعلن، الذى اختار لفظ "دوندو" ليضمن لإعلانه انتشارًا غير مسبوق بالنسبة لإعلانات "جهينة".. هل كان هنا يخاطب المتحرشين الذين اعتبروا صدر المرأة رمزًا جنسيًا، ولا أهمية أخرى له؟.. هناك مَن يقول إنه يريد مخاطبة الأطفال ب"لفظ يجهلونه" لكى يسألوا ذويهم عن الدوندو، وهى آلة جذب ناجحة وضعت صاحب الإعلان فى مقدمة اهتمامات السوشيال ميديا، والجمهور لأيام، وبالفعل تحقق له ما أراد، فهو أيضًا يعانى من عقدة الدوندو، يعتبره أداة جنسية وليس "رمز أمومة" حتى لو حاول أن يبدو غير ذلك. لم يلتفت المُعلن إلى نقطة ضعف منتجه، فقد تعمّد أن يبدى الطفل الذى تخلى عن صدر أمه، وتمّ فطامه قليل الرجولة، لكن الحقيقة غير ذلك، ففى قرى مصر يضربون المثل بالرجولة بأن "فلان راضع من صدر أمه". طبيًا، كانت هناك نقطة ضعف أخرى، رغبة المُعلن فى أن يبيع فقط دون النظر لأى اعتبارات أخرى أعمته عنها "وهذا يخالف مسئوليته الطبية والاجتماعية"، وهى أن اللبن الصناعى – وفق دراسات عديدة – مؤذٍ للأطفال فى سن معيّنة، ولبن الأم "صحى ومفيد ومجاني".