12 شهيدا و40 مصابا في قصف إسرائيلي على خيام النازحين غربي خان يونس بقطاع غزة    شرعنة العنف والفوضى، واشنطن تدرس منح ملايين الدولارات "لمؤسسة غزة الإنسانية"    كلهم مصريين، مصرع شخص وإنقاذ 36 آخرين في احتراق مركب هجرة غير شرعية قبالة سواحل ليبيا    مواعيد مباريات اليوم السبت والقنوات الناقلة، أبرزها مواجهات تصفيات أوروبا لكأس العالم    الأمن يروي ما حدث، حقيقة اقتحام 3 أشخاص منزل سيدة لسرقتها في أكتوبر    "مش جايين نسرق".. تفاصيل اقتحام 3 أشخاص شقة سيدة بأكتوبر    أسما شريف منير تعلن زواجها (صور)    طريقة عمل الفريك بقطع اللحم، أكلة مميزة في العيد    محمد عبده يشيد ب " هاني فرحات" ويصفه ب "المايسترو المثقف "    حمدي فتحي: قرار مشاركتي بكأس العالم جاء بالتنسيق مع الخطيب    مباحثات مصرية كينية لتعزيز التعاون النقابي المشترك    "إذا حدث كذب".. متحدث الزمالك ينشر "حديث" تزامن مع تصريحات زيزو    «المشكلة في ريبيرو».. وليد صلاح الدين يكشف تخوفه قبل مواجهة إنتر ميامي    حسام المندوه: تعاقدنا مع الرمادي لهذا السبب.. وسنعيد هيكلة الإدارة الرياضية في الزمالك    نتيجة وملخص أهداف مباراة المغرب ضد تونس الودية    محمد الشناوي: الزمالك هو المنافس الحقيقي ل الأهلي وليس بيراميدز    مبالغ خيالية.. إبراهيم المنيسي يكشف مكاسب الأهلي من إعلان زيزو.. وتفاصيل التعاقد مع تركي آل الشيخ    «الدبيكي»: نسعى لصياغة معايير عمل دولية جديدة لحماية العمال| خاص    الثلاثاء أم الأربعاء؟.. موعد أول يوم عمل بعد إجازة عيد الأضحى 2025 للموظفين والبنوك والمدارس    سعر الدولار أمام الجنيه والعملات العربية والأجنبية السبت 7 يونيو 2025    عيار 21 الآن بعد الارتفاع الأخير.. أسعار الذهب اليوم السبت 7 يونيو بالصاغة محليا وعالميا    محاضرة عن المتاحف المصرية في أكاديمية مصر بروما: من بولاق إلى المتحف الكبير    يسرا توجه رسالة إلى تركي آل الشيخ بسبب فيلم «7 Dogs»: نقلة نوعية للسينما    منال سلامة ل"الفجر الفني": لهذا السبب قد أرفض بطولة.. ولا أفكر في الإخراج    دار الإفتاء تكشف آخر موعد لذبح الأضحية    سفارة الهند تستعد لإحياء اليوم العالمي لليوجا في 7 محافظات    وفاة سائق سيارة إسعاف أثناء عمله بمستشفى بني سويف التخصصي    تجارة الخدمات بالصين تسجل نموًا سريعًا في أول أربعة أشهر من عام 2025    سوزوكي توقف إنتاج سيارتها «سويفت» بسبب قيود التصدير الصينية على المعادن النادرة    أجواء فرحة العيد في حديقة الحرية أول أيام عيد الأضحى| فيديو    المطران فراس دردر يعلن عن انطلاق راديو «مارن» في البصرة والخليج    بمشاركة 2000 صغير.. ختام فعاليات اليوم العالمي للطفل بإيبارشية المنيا    الكنيسة الإنجيلية اللوثرية تُعرب عن قلقها إزاء تصاعد العنف في الأراضي المقدسة    أخبار × 24 ساعة.. المجازر الحكومية تستقبل أكثر من 9800 أضحية أول أيام العيد    صلى العيد ثم فارق الحياة.. تشييع جنازة صيدلي تعرض لأزمة قلبية مفاجئة في الشرقية    «الطقس× العيد».. استمرار الارتفاع في درجات الحرارة مع «اضطراب الملاحة والشبورة والرياح» بالمحافظات    بسبب ماس كهربائي.. السيطرة على حريق نشب في كشك بكرداسة    البابا تواضروس يهاتف بابا الفاتيكان لتهنئته بالمسؤولية الجديدة    باختصار.. أهم الأخبار العالمية والعربية حتى منتصف الليل.. 42 شهيدا بغزة منذ فجر أول يوم العيد.. انتخابات مبكرة بهولندا في 29 أكتوبر المقبل.. إسقاط مسيرة استهدفت موسكو.. وبوتين يهنئ المسلمين بعيد الأضحى    فيفا يدخل ابتكارات تقنية غير مسبوقة فى كأس العالم للأندية 2025    ولي العهد السعودي: نجاح خدمة ضيوف الرحمن نتيجة جهود الدولة في رعاية الحرمين والمشاعر المقدسة    "الخارجية الفلسطينية" تُرحب برفع عضوية فلسطين إلى "دولة مراقب" في منظمة العمل الدولية    سالى شاهين: كان نفسى أكون مخرجة سينما مش مذيعة.. وجاسمين طه رفضت التمثيل    بصورة مع والدته.. حسن شاكوش يحتفل بعيد الأضحى    اليوم.. فرقة رضا فى ضيافة "هذا الصباح" على شاشة إكسترا نيوز    فولودين: الحكومة الألمانية تثير الصدامات بين روسيا وألمانيا    «المنافق».. أول تعليق من الزمالك على تصريحات زيزو    تفاعل مع فيديو هروب عجل قفزًا في البحر: «رايح يقدم لجوء لأوروبا»    لأصحاب الأمراض المزمنة.. استشاري يوضح أفضل طريقة لتناول البروتين في العيد    أستاذ رقابة على اللحوم يحذر من أجزاء في الذبيحة ممنوع تناولها    احذر من الإسراع في تخزين اللحوم النيئة داخل الثلاجة: أسلوب يهدد صحتك ب 5 أمراض    حدث في منتصف ليلًا| أسعار تذاكر الأتوبيس الترددي على الدائري.. وموجة حارة بكافة الأنحاء    تفشي الحصبة ينحسر في أميركا.. وميشيغان وبنسلفانيا خاليتان رسميًا من المرض    مع قرب انتهاء أول أيام عيد الأضحى.. الغرف التجارية: لا داع للقلق السلع متوفرة.. شعبة الخضروات: انخفاض ملحوظ في الأسعار.. المخابز: لا توجد إجازة لتلبية احتياجات المواطنين    أسعار الكتاكيت والبط اليوم الجمعة 6 يونيو 2025    وزير الأوقاف يشهد صلاة الجمعة بمسجد سيدنا الإمام الحسين بالقاهرة    حكم من فاتته صلاة عيد الأضحى.. دار الإفتاء توضح التفاصيل    سنن وآداب صلاة عيد الأضحى المبارك    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الآباء الفرنسيسكان يعترفون: نريد أن نكون شهودًا للفرح
نشر في البوابة يوم 31 - 03 - 2016

أبونا مراد: «لم أكن متدينًا وبعد دخولى الجيش قربت من ربنا أكتر فرضيت عن نفسى ولما خرجت للدنيا حسيت إنى مدعو لمجال خدمة أكبر وأعمق»
«سامي»: «أسوأ لحظة عشتها لما حسيت إنى مليش حد.. ألاقى نفسى بكبر ومعنديش أسرة.. ودا جرح كبير أوى جوايا خلانى لازم أعيد التفكير»
راهب: «أكبر ذنب عملته إنى أهنت حد من أخواتى واشتهيت بعينى امرأة»
هذا العالم الكبير الذى يتوحد فيه المرء مع ربه.. يسير إليه على غير هدى - رغم رحابته يعيش فيه وحيدًا - إلا من ذلك النداء الداخلى الذى يشده إلى ما لا يعلم.. يقضى أياما وشهوراً فى مناجاة طويلة لا تسمعها إلا السماء.. يميت جسده عن الدنيا ويتخلى عن كل شىء.. يختار دربا مختلفا.. يذهب إليه بملء إرادته، أملًا فى نظرة رضا ربانية، تسبغ عليه السلام والسعادة.
هكذا يطمح الراهب للعيش على الأرض، لا يغلق على نفسه «القلاية» فحسب، وإنما باب الحواس أيضا، يقضى حياته فى فقر اختيارى وزهد ونُسك، متناسيا رغباته وطموحاته، مُسلما ومستسلما إلى سبيله للخلاص والارتقاء إلى الروح القدس.
«الرهبنة» فى حقيقتها ليست الجلباب الأسود أو الذقن الشعثاء. يدخلها البعض هربًا من الحياة وآلامها، ليجد فيها علاجًا شافيًا لشقاء روحه، والبعض الآخر يشتهى فيها وصلًا دائمًا من الصلوات والتسبيحات غير المنقطعة.. صارخين فى الملكوت.. متوحدين مع الطبيعة باحثين فيها عن الله فى مخلوقاته.. وآخرون أنكروا ذواتهم وكرَّسوا أنفسهم لخدمة الناس، من فضل «عطايا الرب» عليهم.. وعلى خلاف هؤلاء، هناك آخرون خرجوا من الدير، وعادوا إلى حياتهم - ليس فشلًا منهم - لكن «لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها».
«الرهبنة» مجتمع مغلق على ذاته، ولا يستطيع أى شخص أن يدخل إليها كعابر سبيل، فهى طريق ملغم بالصعاب، لا يعترف بالفطرة أو الغريزة.. من ينشده يسير عكس التيار.. لا يجد فيه إجابة عن أسئلته الوجودية لأنها تنتهى إلى فيض من المحبة، يشعر بها الهارب إليها. «الطريق إلى الدير»..
أربع حلقات تقدمها «البوابة» اقتربت فيها من العالم الخفى لحياة الرهبان والراهبات (أرثوذكس - كاثوليك)، واستمعت لحكايتهم وتجاربهم والسنوات الطويلة التى قضوها فى أديرتهم، لا يعلم عنهم فيها أحد.
ما أن تدلف من باب دير الآباء الفرنسيسكان، حتى تستقبلك رائحة الورود المزروعة فى كل جنبات الدير، غير الأشجار المُعمرة، والمزروعات الخضراء التى يغرسها الرهبان بأياديهم.. الجميع منهمك بالعمل المنظم.. بعد بضع خطوات من البوابة العتيقة، استقبلنى رجلٌ فى مطلع الخمسين من عمره.. ملابسه متسخة.. لكن له هيبة ووقارا تبوح بهما عيناه الواثقتان.. نفض يديه من آثار الطين الملتصق بها، فقال مرحبا: «اتفضلي»، قلت: «لدى موعد مع رئيس الدير»، فرد معقبا: «ثوانى.. هيجى لحضرتك»، وأشار بيديه نحو باب بعيد، هو غرفة كبيرة لاستقبال الضيوف.. بعد لحظات قليلة، دخل القاعة رجلٌ مهيب الركن، يرتدى رداءً بنيَّ اللون، يطوقه «حبل نذور» حول خصره (حزام أبيض مصنوع من الحبال)، به ثلاث عُقد لكل منها دلالة: «الفقر والعفة والطاعة».. قال مرحبا، ومد يديه مصافحا: «أهلا يا أستاذة».. تفرست ملامح وجهه جيدا، فإذا هى ذاتها ل«البستاني» الذى استقبلنى فى الخارج، فقلت له مندهشة: «مش حضرتك اللى قابلتنى بره؟»، فرد مداعبا: «أيوه.. أنا طالع بدورين».
الأب الروحي للفرنسيسكان
الأب مراد مجلع، رئيس المعهد الأكليركى الفرنسيسكان الشرقى، بقامته الكاثوليكية الوقورة، لم يغتر بمنصبه الكبير وبشئونه الإدارية والتنظيمية ومهامه وأسفاره الكثيرة، وترأسه للصلوات والقداس فحسب، بل يعمل فى تواضع مع تلاميذه من الرهبان، يشاركهم فى كل أعمال الدير: يزرع ويقلع ويسمد الأرض ويلقى البذور، ويطعم البقرة التى يشربون لبنها، وينظف الزريبة من مخلفاتها، وغيرها من أعمال.
لم يكن الأب مراد كغيره من أقرانه، حيث ظل على اسمه الدنيوى «مراد»، على غير عادة الرهبان الذين يستبدلون أسماءهم بأخرى، تيمنا بالقديسين والقامات الروحية من السلف السابق، ذلك اعتزازا باسمه..
هو الأخ الرابع بين ستة أشقاء لوالد متوفى، من أسرة متوسطة، قدم من أسوان مسقط رأسه، بعد أن حصل على بكالوريوس التجارة من جامعة أسيوط، وعمل بعدها موظفا فى أحد البنوك، قادته الصدفة حين كان بمأمورية فى القاهرة إلى زيارة دير الرهبان الفرنسيسكان بالجيزة، فنما بداخله إحساس يصعب وصفه، إلا أنه قال: «كان عندى مأمورية فى القاهرة وجيت الدير، فحسيت إن الحياة قصيرة أوى، والإنسان بيضيعها من غير ما يحقق شيئا كبيرا، والهدف الكبير ده بالنسبة لى، كان فى خدمة أكبر عدد من الناس».
بعد زيارة الدير، اتخذ الأب مراد قراره النهائى بالرهبنة، وسعى نحو تأهيل نفسه للاستسلام للأمر، بعد أن شعر براحة مطلقة سبغها المكان على قلبه، وأكد الرغبة الكامنة لسنوات طويلة داخله، ولذلك دلالات كبيرة فى وقع نفسه، أهمها الفترة التى قضاها فى الجيش، وحبه الشديد لمساعدة من هم حوله: «الموضوع ما بدأش فجأة، كانت فيه علامات ومقدمات، لكن وقت ما جيت الدير قررت فورا الترهبن دون حتى ما أستقيل من وظيفتي»، ويضيف: «مكنتش متدين بنسبة كبيرة، مكنتش بواظب بشكل دائم، لحد ما دخلت الجامعة، والموضوع تطور تدريجيا فى فترة الجيش، بدأت أقرب من ربنا أكتر، وبقيت أحس إنى راضى عن نفسى، ولما خرجت، حسيت إنى مدعو لمجال خدمة أكبر من اللى كنت بعملها فى الجيش».
القرار الذى اتخذه الأب مراد كان «صدمة» كبيرة على أسرته، وتحديدا والدته التى كانت ترغب له فى حياة مختلفة، يتزوج وينجب مثل بقية أخوته، يقول: «البيت استقبل القرار بالصدمة، خاصة أمى لأنها كانت عندها طموحات إنى أتجوز زى أى ابن فى السن ده، لكنها استسلمت فى الآخر، لأنها كانت معودانا على احترام اختياراتنا، رغم أنها مش متقبلة داخليا».
خلال 25 عاما قضاها الأب مراد فى الدير، تخلى فيها عن كل شيء فى حياته، لكنه لم ينقطع عن زيارات أسرته قدر المستطاع، فذلك من أهم شروط الرهبنة فى العقيدة الكاثوليكية، مع الطاعة المطلقة للرؤساء أو كما يقول: «الانفصال بيكون عن ارتباطات الإنسان المادية، أى ارتباط سابق للرهبنة، عاطفيا أو عائليا، وهو أنه يتخلى عن الناس المرتبط بهم فى الأسرة والأصحاب، بالإضافة للتخلى عن الذات والطموحات الشخصية، ويكون مطيعا بإرادته لا بالإجبار، وهو أصعب أنواع التخلى الذى يرافقه طوال حياته».
لا يشعر الأب مراد، بأنه حرم نفسه من نعمة الأبوة، ولا من أى معانٍ إنسانية أخرى، لأنه يرى أنه أب لكل الناس، ويختزل فى هذا المعنى كل العواطف والمشاعر البشرية الأخرى، لأنها تكمن فى خدمة الناس.. يوضح: «الإنسان لو حب يتقرب لربنا، مفيش مجال أحسن من خدمة الناس، أنا ما تخلتش عن إحساسى كزوج له أبناء، لأنى حاليا أب لناس كتير»، ويتابع: «مش الأب اللى بيخلف، الأبوة رعاية واهتمام ومحبة».
حياة الرهبنة والتفرغ وعدم وجود أى التزامات، مكنته من التفرغ للعبادة من ناحية، وللدراسة من ناحية أخرى، فقد حصل على درجة الدكتوراه فى كلية التربية بجامعة السالزيان بروما، قسم الدعوات الرهبانية.. يقول: «وجودى فى الدير ساعدنى أقرّب لربنا أكتر وأكتر، وقدرت أذاكر وأعمل دكتوراه، لكن لو الواحد بره كان هينشغل بالأمور الدنيوية اللى هتبعده وتلهيه عن وظيفته الأساسية فى عبادة ربنا، زى الالتزامات الأسرية، وحتى خدمة الناس بتلهى لكن فى الآخر، دا الهدف اللى أنا كرست حياتى عشانه».
بصفته رئيسا للدير، يشرف «أبونا مراد» على دراسة 10 طلاب فى مراحل دراسية مختلفة، يقضونها فى الدير طيلة 9 سنوات هى السنوات الإلزامية للدراسة، يتخرجون منها لينالوا شرف «الرسامة» كآباء ورهبان، يلتزمون جميعا بقوانين ونظام الدير الذى يبدأ من 5:30 صباحا بالصلاة، لتبدأ الدراسة كلٌ وفق مرحلته الدراسية، ويقضون اليوم ما بين خدمة الناس والصلوات وحضور القداس، والأعمال المختلفة فى الزراعة والأعمال اليدوية، يشرح: «الطلاب فى المعهد بيشتغلوا فى كل حاجة تخدم الناس، فى ملاجئ الأيتام، والعيادات وذوى الاحتياجات الخاصة التى تتبع هيئة الآباء الفرنسيسكان»، ويكمل: «مجال خدمتنا مش قاصر على المسيحيين بس، إحنا مدارسنا فيها 22 ألف تلميذ، منهم 14 ألف مسلم».
بقدر ما تكون إرادة الراهب قوية على محاربة ذاته وقهر الوساوس الذى تؤثر عليه من حين لآخر، إلا أن لكل إنسان نقطة ضعف تباغته على حين غرة، وتتوقف قدرته على الثبات على مدى إيمانه برسالته.. يتحدث الأب مراد عن تجربته قائلا: «بعد ما رجعت من إيطاليا، طُلب منى أخدم فى مدرسة صغيرة فى نجع حمادى، ودا معناه إنى أسيب شغلى فى المعهد وشغلى فى التدريس والتربية، وفجأة لقيت نفسى فى مكان بعيد كل البعد عنى، كان مؤلما أن أتخلى عن الطموح فى مجالى بعد 6 سنين دراسة».
الأخ "سامي".. الباحث عن السلام
نشأ كغيره من الأطفال فى قريته «دير درنكة» بأسيوط، ما بين تأدية واجب الصلوات والخدمات بالكنيسة، وبين اللعب واللهو والدراسة، لكنه كان مواظبا على مدارس الأحد التى تلقى فيها كل العلوم المسيحية.. منزله أشبه بكنيسة مصغرة، لكنه كان الأكثر تدينا بين أخوته الثلاثة «سامح وأسامة وسمير»، ربما لأنه أكبرهم وأكثرهم نضجا.. كان يحب مجالسة الآباء والرهبان الفرنسيسكان، ويستمع لنصائحهم وإرشاداتهم.. وهو ما جعله ملما بالكثير من العلوم، على قدر كبير من الوقار والهدوء.
الأخ «سامي» -هكذا أصبح اسمه فى الدير- عاش قصة حب عميقة منذ أن كان طالبا فى الثانوية العامة، مع جارته بالقرية، وبسبب العادات والتقاليد فى الصعيد لم يستطعا المجاهرة بهذا الحب، إلا بين الأصدقاء المشتركين بينهما، وظل على هذا الحال حتى التحاقه بكلية الآداب بجامعة أسيوط، عندما هاجمته الأسئلة الوجودية، وتملكت من كل جوارحه، لم يستطع مقاومتها أكثر من ذلك، لكنه فى كل الأحوال كان ينشد السلام والسعادة: «بدأت أكون أكثر نضوجا، وكنت بسأل نفسى هو أنا عاوز إيه؟ أعيش وأتجوز؟ ولا أترهبن زى الرهبان اللى كنت بشوفهم وبقعد معاهم فى البلد؟».
حالة التذبذب والصراع التى عاشها «سامى أسعد»، حسمها سؤاله للأب الكاهن فى كنيسته، فى ميوله لدخول الدير، وتزود منه بمعلومات أكثر عن هذه الحياة وأصولها، وبعد العديد من الجلسات، تيقن أنه الطريق الذى يريد أن يسلكه، وأن الحب الذى ينشده هو فقط الذى يكون مع الله، يقول: «أنا حبيت يسوع، وكنت عاوز أوهب نفسى ليه بس، عاوز أعيش فقير، شخص كله لربنا، يموت عن كل اللى فى الدنيا»، ومع هذا اليقين لم يكن «سامي» قد حسم قراره بعد، حتى انتهت سنوات الدراسة الأربع، وسافر للعمل فى شرم الشيخ لمدة عامين، وظل طيلة 6 سنوات فى حالة جدل ذاتى لحسم أمره، وقد كان.
بدأ «سامي» يمهد لحبيبته هذا القرار ويحدثها بشأنه، وطلب منها الصلاة و«هدنة» لإعادة تقييم العلاقة من جديد، لكن الخبر كان صدمة لها، قوبل بالرفض والبكاء، يقول مبتسما: «قلت لها على قرارى، لكن مش نهائى وخلينا ناخد وقت ونصلى ونعيد تفكير لأنى حاسس أن مش هو دا اللى أنا عاوزه، واللى بيحب حد حقيقى بيتمنى سعادته».
عاش بعدها «سامي» فى خلوة فرنسيسكانية، ترسخ له بعدها أنه مدعو بصدق إلى حياة الرهبنة، وأنه لن يجد سعادته كزوج أو أب له أبناء: «حسيت إنى مش مدعو لحياة الزواج، واخترت أكون راهبا بناء على صوت من ربنا بيقولى أنا عاوزك، بكل عيوبك وضعفاتك وأخلاقك، وفى الآخر البنت رضخت لرغبتى لأنها مش هتقدر تعيش مع واحد لا هيقدر يحب أو يتجوز»، ويتابع: «حسيت بسلام كبير، وفى لحظة تصورت إنه ممكن يكون وهم، ما كنتش قعدت كل السنين دى بنفس المعتقد والإيمان الثابت، تجاوزى لكل الصعوبات اللى واجهتنى، والتضحيات والحاجات اللى قدرت أتنازل عنها، كل دا أكد لى إنى ماشى صح، واختبرت نفسى ولاقيت نفسى فى كده، مش هقدر أضحك على ربنا أولا ثم على نفسي».
قضى «سامي» أول عامين من حياته فى الرهبنة، فى كنيسة سيدة الكرمل للآباء الفرنسيسكان فى منطقة بولاق، يحصل فيها على القواعد الأساسية للرهبان، من تأهيل نفسى وبدنى، يختبر فيها على مدى قدرته على الثبات واستكمال طريقه: «أول سنتين قعدت فى الكرمل، ده الدير اللى بنقعد فيه، وبعدين بنيجى المعهد ندرس الدراسات الأولى بتكون اجتماعية ونفسية ورهبانية، كتاب مقدس، بتكون حاجات بسيطة».
خلال سنوات حياته الثلاثين، لم يمر «سامي» بلحظات ألم أو ضعف، لطبيعته الهادئة ونزعته المسالمة، إلا أنه عاش فى صراع نفسى كبير بعد أن دخل الدير، تمثل فى رغبته فى العودة إلى الدنيا مرة أخرى، وعاش لحظات شتات طويلة، طيلة السنوات السبع التى قضاها فى المعهد، يحكي: «أسوء لحظة عشتها، إنى أحس إنى مليش حاجة كأنى ميت، إنى ما يكنش ليا اسم أو أسرة ده جرح كبير جوايا، وهيفضل كده وأنا مستوعب ده، صعب إنى ألاقى نفسى بكبر ومعنديش أسرة، فيبقى لازم أقف وأفكر، لكن أمام الإحساس ده فى صوت أقوى بالثبات، فبقدر أتجاوز وأعدي».
عندما دخل «سامي» الدير، كان معه 6 من زملائه، رحلوا جميعا عن حياة الرهبنة، وظل هو وحيدا: «إحنا دخلنا 6 فى الدير، أنا بس اللى فاضل، كلهم مشيوا فيه اللى إتجوز، واللى مقدرش يكمل، واللى الدير رفضه».. رحيل أصدقائه لم يثنه عن مشروعه، ولم يحرك من قراره موضع قدم: «كل واحد مننا اختار بحريته، وكل واحد جرى ورا غرايزه ورغباته، لكن أنا زى ما أنا».
لا يرى «سامي» أن الرهبان ملائكة، لأن للجميع خطايا وأخطاء، ويعترف بأنه وقع فى ذلك مرات عديدة، لكنه يسارع للعودة للطريق القويم، كما يرى أن أكبر خطأ اقترفه فى حياته هو أن ينظر لمرأة بشهوة، أو يهين أحدا من أشقائه، يوضح: «الرهبان بشر وعندهم خطايا، وأكبر ذنب عملته إنى زعلت حد من إخواتى أو أهنته، أو إنى أشتهى بعينى امرأة، الخطية قدام ربنا خطية مهما كانت، والشهوة مش بس فى الجنس، دى فى الأكل أو الفلوس، وبعترف بالذنب وأقول لأبونا، وإنى اشتهيت بالنظر والجسد».
الأخ مينا.. "بركة دير درنكة
السنوات الطويلة التى قضاها فى تجارته وعمله بالإسكندرية، وابتعاده عن أسرته مهدت بسهولة دخوله فى حياة الرهبنة.. ورغم سنه الصغيرة، لم يكن متعلقا بأحد، طابعه الجاد الحازم سهل مهمته فى الدخول إلى الدير.. وبطبيعة الحال فى العادات والتقاليد بأسيوط، أن يتزوج الشباب فى سن صغيرة، حينها كان «مينا» يخطط للزواج، وفى خضم تجهيز عش الزوجية، وجد فى قرارة نفسه أن هذه الخطوة لن تجلب له السعادة، وأن له فى الحياة رسالة أخرى عليه أن يؤديها، ويقدم فى سبيلها كل التضحيات الممكنة وغير الممكنة: «حسيت إن ربنا خلقنى لحياة تانية، وإن فى رسالة أكبر وأعمق من إنى أشتغل وأجيب فلوس، وأتجوز وأخلف».
جاء «مينا» من «دير درنكة»، وهو فى العشرين من عمره بعد أن حصل على دبلوم فنى صناعى، طالبا الرهبنة فى معهد الآباء الفرنسيسكان، وظل فيه 5 سنوات، وجد فيها كل ما ينشده من سعادة وسلام، خاصة أنه بطابعه ومنذ طفولته كان مرتبطا بكنيسة العذراء بالقرية.
بدأ «مينا» يؤصل بداخله الرغبة لاختيار هذا الطريق، من خلال اشتراكه فى الرحلات التى ينظمها «الفرنسيسكان» تسمى «السياحة الروحية»، أو «المسيرة الروحية»، وهو تقليد وضعته الرهبنة الكاثوليك فى مصر من سنوات، يقول: «بتبقى وقت طويل من الصمت، بنمشى فى صحراء سانت كاترين فترات طويلة، مع لقاءات وصلوات، بيكون الهدف فيها العزلة عن حياتنا، فى الوقت ده كل واحد بيفكر كويس، وناس بتسمع همس جواها زى صوت الضمير، ويسمعوا نداء داخلى يجذبهم، بإنهم يكونوا رهبان أو خدام أو مكرسيَّن، وأنا حصلى فعلا كده»، ويتابع: «بعد ما سمعت الصوت ده، قررت أستسلم ليه، وأترهبن وأنا عارف إنها مش حاجة سهلة، فاختبرت نفسى لمدة سنة».
على عكس كثير من الأسر التى ترفض قرار رهبنة أبنائها، استقبلت أسرة «مينا» رغبته بالترحيب والموافقة، لأن والده يخدم فى الكنيسة «شماس»، وتمنى أن يسلك أحد من أبنائه هذا الطريق، يحكي: «محدش مانع فى البيت، لأن بابا كانت عنده الرغبة ديه، إتبسط جدا، وقال لى كان نفسى إن حد من ولادى يكون راهب، لكن والدتى بكت شوية لكن اقتنعت».. ولما حانت لحظة رحيل «مينا» تشبث به شقيقه الأكبر «ماركو»، لكن ما باليد حيلة: «أثر فىّ كلام أخويا أوى، قالى ما تسبنيش، وهو بيوصلنى علشان أركب القطر، وفضل يعيط ويترجاني»، ويتابع: «توجعت لكن ما ضعفتش، فى آية فى الكتاب بتقول محدش يحط رجله على الطريق ويبص وراه وينفع لملكوت السماوات».
يتذكر «مينا» لحظة وصوله إلى «سيدة الكرمل» واستقبال الأب ميلاد له مع ثلاثة من زملائه، حينها دبت فى جسده الروح، رغم أنه وجد فى البداية صعوبات كبيرة، يشرح: «استقبلنى أبونا ميلاد، حسيت لحظتها إن الحياة بدأت على طول، وكلفت بالخدمة والشغل على طول، وكان بيشرف علينا 3 رهبان: أبونا أنطونيو، وأبونا ميلاد، وأبونا عما نويل، لكن فى الشهور الأولى أوقات كتير، كنت بشعر بالوحدة والحزن، وأنام لوحدى فى الأوضة وأنا مكنتش متعود على كده، واللى صعب الحكاية، دخول الشتاء كنت بحس بوحدة أكبر».. لم تكن الوحدة هى هاجس «مينا» الوحيد، لكن حاربته أفكار أخرى، تحاول النيل من قراره وتؤرقه ليل نهار، ودخل فى مناجاة طويلة مع الله: «ابتدت تجينى أفكار، إن ده مش طريقى، وإنى اتسرعت فى القرار، وظلمت الناس اللى سيبتهم بعد ما حرمتهم منى، وعيطت كتير وأنا بصلى، وقلت لربنا إنت عارف إنى تعبان، ساعدنى إنى أتعود وأكمل، وساعد أهلى إنهم يتعودوا على غيابي»، يتابع: «حالة التذبذب ديه جاتلى 3 مرات، فى المرة الرابعة، كانت صعبة جدا، حسيت إنى مش قادر أكمل والدنيا وقفت، كان نفسى أجمع بين حياتى فى الدير وحياتى بره، لكن بعد قراءة فى كتب القديسين وتجاربهم، ودا اللى ثبتنى فى حياة الرهبنة».
بمرح يحكى «مينا» عن اللحظة التى شاهدته فيها أسرته، بثوب الرهبان: «توب الرهبان ليه هيبة ووقعه علينا كمسيحيين كبير، ولما شافوا إن واحد من بيتنا بقى راهب، دا يعتبر بركة للبيت كله، وكانوا سعداء جدا ولأول مرة حسيت إنى مبسوط، وما حدش عيط تانى».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.