"أنت ابن مرة .. والمرة عمرها ما تربي راجل".. هكذا كان يراني من حولي حتى أعمامي كانوا يرون في أمي امرأة لا تصلح لأن تعتني بابن أخيهم الذي تركني طفلاً لا أعي شيئًا في الدنيا وصعد إلى رب العالمين، تلك الجملة كانت ولا زالت وستظل محفورة في عقلي لن أنساها أبدًا ولن أنسى أنها كانت إحدى الأسباب الرئيسية التي جعلتني أكره تلك المرأة خصوصًا في فترة المراهقة، لن أنسى أني في تلك الفترة كنت أتحدث مع الله كثيرًا في محاولة لأعرف لماذا أخذ أبي وترك أمي! فلماذا لم يحدث العكس؟ كنت كمثل أصدقائي في فترة المراهقة أرى أن شرفي كله مرهون بمعرفتهم بأمي.. كنت خائفًا من أن يراها أحدهم حتى لا أفقد شرفي أمام الجميع.. ناهيك عن حالة الرعب التي كنت أعيشها حين يعلم أحدهم ما هو اسمها، كما أنني لن أنسى تلك اللحظات التي كانت تسود فيها الدنيا في وجهي لمجرد أن يقوم مدير مدرستي بطلب استدعاء ولي الأمر لأنها أمي وليست أبي وللأسف كان يحدث هذا كثيرًا لأنني كنت من أكثر المشاغبين في المدرسة. الكثير من ذكريات لو دونتها لن تكفيني مجلدات الأرض وما عليها والسبب كان في جملة "أنت ابن مرة"، أتذكر ذلك اليوم الذي كنت أجلس فيه مع ابن عمي وأصدقائي في بيتنا وتجاذبنا أطراف الحديث وقال لي نصا "الأب وجوده في البيت لازم لأنه بيعلم الخشونة وبيعرف يربي راجل" لن أنسى ضحكات أصدقائي والتي رددت عليهم بمثلها وهم لا يعلمون أنني من الداخل قد ذبحت، خصوصًا أن هذا الموقف قد جاء في أوج فترة مراهقتي وأنا في الصف الثاني الثانوي. وأخيرًا كنت أرى أن أمى همًا ثقيلًا على قلبي وفي موتها راحة أبدية لن أعيش مثلها طالما بقيت على قيد الحياة.. وبالفعل كانت إرادة الله وافترقنا وتوجهت إلى القاهرة لأكمل دراستي الجامعية في إحدى الجامعات الخاصة لأن مجموعي وبلا فخر كان 67% ولكنها رفضت أن أكون أقل من أحدهم وأكملت دراستي هنا في القاهرة ولن أنسى حلاوة الفراق التي ذقتها في البداية. تلك الحلاوة لم تدم طويلاً وكأن الله قد حدد الوقت لأعيد كل حسابتي من جديد، بدأت عملي في بلاط صاحبة الجلالة وبدأت أكبر يومًا بعد يوم في مهنة المتاعب وأرى بعيني كم كانت تحمل عني تلك المرأة الكثير والكثير من الذي لم أشعر به لحظة.. وكثير لا نشعر بالنعمة إلا حين تزول. حاولت كثيرًا أن أرى نفسي وحياتي بعيونها وليس بعيوني.. وسألت نفسي عن مدى شعورها وهي ترى ذلك الطفل الصغير يكبر أمامها وبدأت أتذكر فرحتي حين كنت طفلاً بزهوري التي زرعتها بيدي وهي تكبر أمامي وأتفاخر بها بين أصدقائي رغم جرحها لي بشوكها أكثر من مرة ولكن شكلها وهي شامخة ورائحتها الجميلة التي تفوح منها كانت تنسيني كل تلك الخدوش التي تركت آثارها في يدي. بدأت أكبر في مهنتي وبدأ أبناء أعمامي وأهل بلدي يلتفون حولي ويتفاخرون بي بين الناس لكوني أصبحت صحافيًا نابغًا ورجلاً كبيرًا يعتمد عليه، أتذكر حين مات عمي الكبير وبعد الدفن جاء لي ابنه الأكبر وطلب مني أنا "ابن المرة" كما كان يصفني هو وإخوته وأبوه الذي واراه التراب أن أفتح له بيتنا ويخرج منه العزاء لأن بيتهم صغير وتكرر الموقف مع عمي الثاني وزوجته أيضًا، وكأن الله أراد أن يقل لي "تلك المرأة التي لا تعجبك استطاعت أن تفعل ما لم يفعله الرجال.. فجميعهم خرجوا من منزل أخيهم الذي عمرته أمك وخرج منه أبيك مستورًا من بيته الذي حافظت عليه هذه المرأة. مرت الأيام وبعدما كنت في نظرهم ابن المرة أصبح الجميع يتمنى أن يصل لمكانتي التي أنا فيها وبدأت أشعر بنشوة الفرح حين يقابلني أحدهم وينحني لي احترامًا ويقول لي "سلملي على أمك" لم أعد أشعر بالخوف من تلك الكلمة ولم أر في أمي أي شيء ينقص من شرفي بالعكس أصبحت أرى فيها رجولتي التي لم أرها مع والدى لظروف موته، ولم أشعر قط بحلاوة كوني رجلاً إلا حينما فقدت الخجل من اسمها وكيف لي أن أخجل من اسم أمي التي سيناديني الله بها يوم القيامة أمام العباد "أحمد بن نبيلة بنت زكية" فلو كان الأمر مخجلاً لما كان الله ليناديني به. لن انسى حين أتاني أبي منذ فترة ليست ببعيدة في المنام وكنت أرى في عينيه فرحة كبيرة لا توصف وقال لي "أنت كبرت أهو وبقيت راجل"، لم أتردد للحظة واحدة في الإجابة وقلت له "مراتك هي إللي ربت وكبرت بعد ما أنت مشيت"، قمت من نومي وأنا لست متأكدًا إن كان هو حقًا أبي الذي جاءني أم كان هذا نتيجة تفكير دار لسنين في عقلي الباطن ولكن سواء كان هذا أو ذاك فإجابتي كانت حقيقه رغم أنها تأخرت كثيرًا. وأخيرًا.. إن ما كتبته في تلك السطور القليلة لم أتخيل يومًا أن أبوح به أمام أحد ولكن أحببت أن أشكر أعمامي والمجتمع كله في هذا اليوم، لأنه لولاكم ولولا جملتكم التي حفرت بداخلي لما عرفت قيمة أمي ولا عرفت قيمة نفسي ولا تشجعت في أن أكون أفضل من أبنائكم جميعًا فأنا وبكل فخر "ابن المرة" التي أذيتها كثيرًا لجهلكم.