"لا بد أن يأتي يوم تبلغ فيه الأفكار العادلة أهدافها رغم كل العقبات، فهي كالصخور التي تتدحرج إلى أسفل التل، قد يكون من الممكن تسريعها أو تعطيلها لكن يستحيل إيقافها". قائل تلك العبارة، خوسيه جوليان مارتي (28 يناير 1853 19 مايو 1895) سياسي وشاعر وصحفي، يعد بطل كوبا القومي "شهيد الاستقلال" و"رسول الحرية" كما يطلق عليه هناك، اقترن اسمه بالنضال ضد الإستعمار الإسباني في القرن التاسع عشر، ويظهر اسمه على أهم معالم كوبا بدءًا من مطارها الدولي، حتى المدارس والشوارع والجوائز طوابع البريد. يرجع له الفضل في تنظيم وتوحيد حركة الإستقلال في كوبا، ومات شهيدًا في ساحة المعركة دفاعًا عن وطنة ومبادئه، والذي جعل منه تمسكه بالكفاح من أجل استقلال كوبا ونشر قيم الحرية والمساواة ونبذ العنصرية في دول أمريكا اللاتينية، بطلاً قوميًا في أنحاء القارة. بدأ مارتي نضاله في سن مبكرة، فلم يكد يبلغ السادسة عشرة من عمره حتى سجن بسبب آرائه السياسية، ثم أفرج عنه لأسباب صحية، غير أنه سرعان ما أثار غضب السلطات التي آثرت استبعاده من كوبا ، وفي عام 1871 أخرج مارتي من كوبا وأرسل إلى أسبانيا ولم يكن قد أتم الثامنة عشرة من عمره. عاش مارتي حياة سياسية وفكرية حافلة، بدأها طالبًا ومناضلاً من أجل الحرية، وأنهاها شهيدًا في حرب الاستقلال التي شارك في الإعداد لها، مرورًا بفترة نفيه إلى أسبانيا وتنقله بين فنزويلا والمكسيك ودول أمريكا الوسطى، ثم عمله بالصحافة في نيويورك، غير أن كل هذا لم ينسه قضيته الأسمى وهي تحرير بلاده من الاستعمار. بالإضافة إلى تاريخه النضالي، يعد خوسيه مارتي رائد الحداثة في الأدب الأمريكي الاتيني، فقد كان كاتبا بارعًا تميز أسلوبه بالسهولة والعمق والخلو من التكلف السائد حينئذ ، فتسللت كلماته إلى قلوب أبناء الشعب المقهور، ويرى كثير من النقاد أن كتاباته تعكس حبه للحرية والعدالة وفهمه العميق لطبيعة البشر. ورغم أنه لم يثبت زيارته لأي بلد عربي، حفلت كتابات المناضل الكوبي بالعديد من الإشارات لبلاد العرب، ولم يخف مارتي إعجابه بالعلوم والفنون والعادات والأمثال العربية، ولقد استعان بالحكمة العربية حين انتقد بعض من خذلوه، فخاطبهم قائلاً: "ينبغي الاستفادة من العربي في أمرين على الاقل: صلواته اليومية، حيث يطلب من الله الهداية للسير على الصراط المستقيم، وذلك المثل القائل (الكلاب تنبح والقافلة تسير)". رأى مارتي أن التغيير قادم لا محالة، ولم يطلب العون من أي قوى خارجية، وخاصة الولاياتالمتحدة التي رأى حينها أنها ستسعى لبسط سيطرتها على دول أمريكا اللاتينية، وكان لسعي مارتي لتحرير بلاده أكبر الأثر في نفوس الكوبيين، حتى أن العديد من الكتاب السياسيين يرون أن ما قدمه خوسيه مارتي من أجل تحرير كوبا يفوق كل ما فعله أي مناضل ممن سبقوه. ولعل نضال الزعيم الكوبي فيدل كاسترو عام 1953 الذي أطاح بالدكتاتور فولجنسيو باتيستا ، هو امتداد لحلم خوسيه مارتي برؤية كوبا بلدًأ حرًا و"وطنًا للجميع ومن أجل الجميع"، وهو ما حدث عام 1959 حين انتصر المناضلون، وتحقق الهدف الذي وهب له مارتي حياته القصيرة لكنها كانت نبراسًا لآلاف المناضلين في أمريكا اللاتينية. لم يكتف مارتي بالكتابة عن الحرية بل سعى إليها، فحمل سلاحه دفاعًا عن وطنه، فاستشهد في أول معركة ضد المستعمر الأسباني في مكان يدعى "دوس ريوس" في 19 مايو 1895، وكأنه مات كما أراد وتمنى حيث يقول في إحدى قصائده:"لن أموت في الظلام كما الخونة المارقين، فأنا إنسان صالح، وساموت ناظرًا إلى الشمس". إن ما جعل مارتي من أبرز الشخصيات في التاريخ البشري هو ولاؤه لقيم الإنسانية وتعاطفه مع الشعوب المظلومة في كل بقاع الأرض، فقد آمن مارتي بحق الشعوب في الحرية (كانت العبودية سائدة في كوبا في ذلك الوقت) والديموقراطية وكرس حياته لنشر قيم المساواة. مات خوسيه مارتي لكن بقيت أفكاره خالدة، تلهم الساعين للحرية في كل أنحاء العالم، وستظل ذكراه خالدة في قلب وعقل وروح الشعب الكوبي إلى أن يشاء الله.