إعداد: أحمد صوان إشراف: سامح قاسم "الشارع بيتنا وغنوتنا والشارع أعظمها مغني من لحن الشارع كلمتنا على لحن الشارع بنغني".. لم يكن أحمد فؤاد نجم، وهو الابن السابع عشر لأب يعمل بالشرطة، وأم فلاحة أمية من الشرقية -واللذان لم يبق من أولادهما سوى خمسة منهم أحمد المولود في الثالث والعشرين من مايو عام 1929، والسادس فقدته الأسرة- يدري وهو يُكافح في نشأته الريفية أنه سيصل للمكانة التي جعلته واحدًا من آباء شعر العامية والنضال السياسي في تاريخ مصر، فبدايته المتواضعة كانت كعادة أهل القرى، حيث التحق بكتّاب القرية، ثم توفيَّ والده فانتقل إلى بيت خاله حسين بالزقازيق، حيث التحق بملجأ للأيتام -وهو الذي قابل فيه عبدالحليم حافظ- تركه في سن السابعة عشرة، وعاد لقريته للعمل بها؛ ثم انتقل للقاهرة عند شقيقه؛ إلا أنه طرده بعد ذلك ليعود إلى القرية. تنقل نجم في معسكرات الجيش الإنجليزي بين مهن كثيرة، وعندما ذهب إلى فايد التقى بعمال المطابع الشيوعيين، وكان في ذلك الوقت تعلّم بنفسه القراءة والكتابة، واشترك مع الآلاف في المظاهرات التي اجتاحت مصر عام 1946 وتشكلت حينها اللجنة الوطنية العليا للطلبة والعمال؛ وخرج مع آلاف العمال من المعسكرات الإنجليزية بعد أن قاطعوا العمل فيها إثر إلغاء معاهدة 1936، وكان وقتها يعمل بائعًا، فعرض عليه قائد المعسكر أن يبقى وإلا فلن يحصل على بضائعه، لكنه رفض؛ وكان أهم ما قرأ في تلك الفترة رواية "الأم" للروسي مكسيم جوركي، وارتبطت بذهنه فيما بعد ببداية وعيه الحقيقي، ولم يكن قد كتب شعرًا حقيقيًا، وإنما كانت أغاني عاطفية، وكان في ذلك الحين يُحب ابنة عمته، لكن الوضع الطبقي حال دون إتمام الزواج لأنهم أغنياء. "غرامي في الحروب يسبق كلامي وأملي في الشعوب يخلق غُنايا وعشقي للكلام غالب سكوتي وكرهي للسكات جالب شقايا".. وبعد قيام ثورة يوليو، وعندما قامت حرب السويس عمل نجم في السكك الحديدية، وبعد المعركة قررت الحكومة المصرية أن تستولي على القاعدة البريطانية الموجودة في منطقة القنال وعلى كل ممتلكات الجيش هناك، وكانت ورش وابور الزقازيق تقوم في ذلك الحين بالدور الأساسي لأن جميع وابورات الإسماعيليةوالسويس وبورسعيد تم ضربها في العدوان، وشهدت هذه الفترة أكبر عملية نهب وخطف شهدها نجم، حيث أخذ كبار الضباط والمديرون ينقلون المعدات وقطع الغيار إلى بيوتهم. الشاعر: في وزارة الشؤون الاجتماعية عمل نجم بوسطجيًّا، يقوم بتوزيع البريد في القرى والعزب والكفور، وكان في تلك المرحلة يُعيد اكتشاف الواقع بعد أن تعمقت تجربته، فشعر حينئذ رغم أنه عمل بالفأس لمدة ثمانية سنوات أن حجم القهر الواقع على الفلاحين هائل وغير محتمل؛ وفي عام 1959 انتقل إلى العمل بالنقل الميكانيكي في العباسية، حيث تم اعتقاله مع أربعة آخرين من العمال المتهمين بالتحريض والمشاغبة إلى قسم البوليس وهناك تعرضوا لمُعاملة قاسية، أدت إلى موت أحد العمال من الضرب، ثم عادوا إلى المصنع وطلبوا منهم توقيع إقرار بأن العامل الذي مات كان مشاغبًا، وأنه قتل في مشاجرة مع أحد زملائه، وبالطبع رفض نجم التوقيع فتعرض للضرب، واتهموه بالاختلاس، وتم الحكم عليه بالسجن لمدة 33 شهرًا؛ وربما كان السجن فاتحة خير عليه، حيث التقى هُناك الكاتب والروائي عبدالحكيم قاسم، الذي كان عضدًا له، كما أن أحد ضباط السجن كان من هواة الأدب، فشجّعه على الكتابة ونسخ له قصائده على الآلة الكاتبة وأرسلها إلى وزارة الثقافة، والتي كانت تقيم آنذاك مسابقة شعرية، وفاز بها ديوانه الذي يحمل اسم "صور من الحياة في السجن" بالجائزة الأولى، وكانت مقدمة الديوان بقلم الراحلة سهير القلماوي فأصبح العامل المفصول وهو في السجن شاعرًا مشهورًا بعد أن نشرت وزارة الثقافة الديوان عام 1962. "وكل يوم في حْبِك تزيد الممنوعات.. وكل يوم بحبِك أكتر من اللي فات".. بعد خروجه من السجن عُين نجم موظفًا بمنظمة تضامن الشعوب الآسيوية الإفريقية، وأصبح أحد شعراء الإذاعة المصرية، وأقام في غرفة على سطح أحد البيوت في حي بولاق الدكرور بعد ذلك تعرف على الشيخ إمام في حوش آدم، وسرعان ما جمعتهما الصداقة، ليُقرر نجم أن يسكن معه ويرتبط به حتى أصبحا ثنائي معروف وأصبحت الحارة ملتقى المثقفين. السجون: كانت بداية نجم مع السجون في أوائل الخمسينيات عقب إلغاء المعاهدة المصرية الإنجليزية– معاهدة 1936- حينما دعت الحركات الوطنية المصريين العاملين بالمعسكرات الإنجليزية إلى تركها، وكان نجم من أوائل من لبّوا الدعوة، وعينته حكومة الوفد كعامل بورش النقل الميكانيكي، ولكن في تلك الفترة قام بعض المسؤولين بسرقة المعدات من الورشة، وعندما اعترضهم كاشفًا ما يجري تم اتهامه بجريمة تزوير لاستمارات شراء، مما أدى إلى الحكم عليه بالسجن ثلاث سنوات، قضاها بسجن قرميدان. وفى عام 1959 الذي شهد أولى حلقات الصدام مع السُلطة، كان نجم شاهدًا على الصدام بين السُلطة الاشتراكية، والمُمثلة في نظام الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وبين قوى اليسار في مصر، وهو الموقف الذي حكى عنه نجم "وفي يوم لا يغيب عن ذاكرتي أخذوني مع أربعة آخرين من العمال المتهمين بالتحريض والمشاغبة إلى قسم البوليس، وهناك ضربنا بقسوة حتى مات أحد العمال، وبعد أن أعادونا إلى المصنع طلبوا مننا أن نوّقع إقرارًا يقول إن العامل الذي مات كان مشاغبًا، وأنه قُتل في مشاجرة مع أحد زملائه". "أنا الأديب الأُدباتي غايظني حال بلدياتي وغُلبت أوحوح وأهاتي لكن بلدنا سمعها تقيل".. "آه يا وطن على الورق الحلم فيك على الورق والعلم فيك على الورق".. أطول مدة قضاها نجم في السجن ثلاث سنوات كانت أيضًا في عهد الرئيس جمال عبدالناصر، والذي أصدر أوامره بسجن نجم والشيخ إمام بعد انتشار أغنيتهما "الحمد الله"، والتي هاجم فيها النظام الحاكم عقب نكسة 1967، وصدر الحكم عليه بالسجن المؤبد، ولكنهما خرجا من السجن عقب وفاة عبدالناصر؛ وبعدها بعشرة أعوام إبان حكم الرئيس الراحل أنور السادات تم القبض على نجم مرة أخرى، بسبب تلاوته قصيدة "بيان هام" في إحدى كليات جامعة عين شمس، وأصدر الرئيس السادات قرارًا بإحالته إلى محاكمة عسكرية، والتي أصدرت عليه حكمًا بالسجن لمدة عام. "هو بيتولد.. ثم لا نعلمه فيصبح جاهلا.. ثم نعامله بتكبر فيصبح منبوذا.. ثم نهينه فيصبح عدوانيًّا.. ثم نطالب بحبسه وإعدامه لأنه خطر على المجتمع".. عاد نجم للسجن مرة أخرى عام 1981 في بيت باحثين علميين فرنسيين، اللذين عقدا مؤتمرًا صحفيًا في باريس نشرته جريدة لوموند الفرنسية أعلنا فيه أنهما تعرضا للتعذيب في سجن القلعة، وقالا إن نجم تعرض أيضًا للتعذيب في سجن طرة، بينما كان نجم قابعًا في السجن مُعلنًا الإضراب عن الطعام حتى الموت إذا لم يفرج عنه؛ وكما حكى الشاعر الكبير زين العابدين فؤاد ذكرياته مع نجم والراحل الشيخ إمام عيسى في السجن، فقال إن الثنائي خرجا من السجن بعد وفاة عبدالناصر في 1971، ثُم أعيد القبض عليهما بعد عقب مظاهرات الطلبة في 1972 وفي السجن هذه المرة كان نجم كتب "أنا رحت القلعة وشفت ياسين"؛ كذلك تم اعتقالهم عام 1973 اعتقلنا معا مرة أخرى عندما شاركوا في مظاهرات عمال حلوان للحديد والصلب، حيث تم اتهامهم بالتحريض، ثُم أُعيد القبض عليهم جميعًا مرة أخرى في عام 1977 بتهمة التحريض أيضًا. "المجد للشاه في الأعالى وبالناس المذلة وعلى الأرض الخراب".. وكان قد جاء في نص قرار الاتهام أن نجم "دأب على كتابة القصائد المناهضة لنظام الحكم"، وقضوا داخل السجن ثمانية عشر شهرًا، ولما خرج نجم ذهب إلى جامعة عين شمس وألقى قصيدته الشهيرة "بيان هام" فتم القبض عليه مرة أخرى حسب نفس الاتهام، الذي أحاله الرئيس السادات فيما بعد إلى المحاكمة العسكرية، وأن نجم تم وضعه في زنزانة "9" الشهيرة بسجن أبوزعبل، بينما بقى زين العابدين وبقية رفاقه في السجن؛ وروى زين العابدين أنه وقتها قال لنجم" كان عندى مشكلة في المياه في بيتي بالهرم واتحلت هنا في السجن"، فرد عليه الشاعر الراحل "أنت هتفضل في السجن لغاية ما مصر تدار بالطاقة الذرية". "شقشقت والنور بشاير زهرة الصبار يا سلمى يا نسيم الشوق يا طاير خد لمصر في الصبح كلمة".. تزوج نجم عِدة مرات، وله ثلاثة بنات هم عفاف، زينب، ونوارة؛ وكان زواجه الأول من فاطمة منصور ثم من الفنانة عزة بلبع، والكاتبة صافيناز كاظم، وممثلة المسرح الجزائرية صونيا ميكيو، وكانت زوجته الأخيرة هي السيدة أميمة عبدالوهاب وأنجب منها زينب. الرحيل: توفي أحمد فؤاد نجم في الثلاثاء الموافق الثالث من ديسمبر 2013 عن عمر يناهز أربعة وثمانين عامًا، بعد عودته مباشرة من العاصمة الأردنية عمّان، التي أحيا فيها آخر أمسياته الشعرية برفقة فرقة الحنونة بمناسبة ذكرى اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني. وقد تم تشيع الجثمان من مسجد الحسين في مدينة القاهرة. "يا حبيبتي قلبي عاشق واسمحي لي بكلمتين كلمتين يا مصر يمكن هما آخر كلمتين حد ضامن يمشي آمن أو مآمن يمشي فين".. حصد نجم في حياته عدة جوائز، منها اختياره عام 2007 سفيرًا لصندوق مكافحة الفقر التابع للأم المتحدة، وبجائزة الأمير كلاوس الهولندية عام 2013، وحصل على المركز الأول في استفتاء وكالة أنباء الشعر العربي عن قصيدته "جيفارا مات"، وفي 19 ديسمبر 2013 وبعد وفاته منح وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى.