برزت العديد من روايات البرتغالي خوسيه ساراماجو في صدارة الأدب العالمي، وكان الرجل الذي اقترب عمره من المائة عام قد خاض حياة حافلة مليئة بالكلمات، فمن أعماله الأدبية إلى مواقفه السياسية، وحتى بعد توقفه عن الكتابة الروائية، ظل يُطل على مُحبيه من خلال مدونته على الإنترنت حتى رحل عن عالمنا؛ نستعرض معًا واحدة من أهم روايات سارماجو، وكذلك أشهر ما كتبه على مدونته. العمى تبرز "العمى" كأحد أهم وأشهر روايات ساراماجو، والتي اكتسحت شهرتها أرجاء العالم، وتمت ترجمتها للعديد من اللغات، وغلب عليها مزج الواقع بالميتافيزيقيا، ليدخل قارئه عالم ساحر يبدأ مع أولى صفحاته وسط شخصيات يُحركها بأسلوبه الخاص. "إن الضمير الأخلاقي الذي يهاجمه الكثير من الحمقى وينكره آخرون كثر أيضًا.. هو موجود وطالما كان موجودًا ولم يكن من اختراع فلاسفة الدهر الرابع، حيث لم تكن الروح أكثر من فرضية مشوشة، فمع مرور الزمن والارتقاء الاجتماعي أيضًا والتبادل الجيني انتهينا إلى تلوين ضميرنا بحمرة الدم، وبملوحة الدمع، وكأن ذلك لم يكن كافيا، فحولنا أعيننا إلى مرايا داخلية والنتيجة أنها غالبًا تظهر من دون أن تعكس ما كنا نحاول انكاره لفظيًا".. عمد سارماجو إلى عدم استخدام أسماء في روايته مكتفيًا بأوصاف أبطاله، فهناك الطبيب، وزوجة الطبيب، والرجل ذو العصابة، والطفل الأحول، والفتاة ذات النظارة السوداء؛ وتدور أحداثه حول وباء انتشر في بلد ما أصيب الناس فيه جميعًا بالعمى، ورغم أن البلدة في البداية قامت بالحجر على مجموعة من المصابين منعًا لانتشار العدوى، إلا أن العدوى انتشرت بالفعل لتعم الفوضى والجثث في كل مكان؛ وبقيت زوجة الطبيب هي الوحيدة التي لم تفقد بصرها، ليعتمد عليها اصدقاؤها في شتى الأمور، منها قتل زعيم عصابة من العميان داخل المحجر، والبحث عن الطعام والنظافة والمأوى؛ ثُم تخرج الرواية من طرحها الفيزيقي إلى الميتافيزيقي، وذلك عندما رأت زوجة الطبيب داخل الكنيسة أن جميع التماثيل المقدسة قد تمت تغطية عيونها، ودار حوار فلسفي حول أحقية الإله في النظر إلى مخلوقاته، وانتهت الرواية بعودة البصر إلى الجميع. "الخير والشر المتأتيان عن كلماتنا وافعالنا متكافئان، إذ يستمر أحدهما في اتساق معقول وطريقة متوازنة خلال الأيام اللاحقة، وربما إلى ما لا نهاية في حين لا نكون موجودين لنرى نتائجه -للفعل أو القرار - لنهنىء أنفسنا عليه أو نعتذر".. حاول ساراماجو في روايته عكس الهمجية الإنسانية التي فضحها، ويميط الخوف عنها اللثام، كما أن فكرة العمى في حد ذاتها كان يمكن أن توزع على سائر الاتجاهات ومن ضمنها اللاهوت وعمى الإنسان عن رؤية الحقيقة، وضلال الإنسان المستمر انطولوجيًا. دفاتر ساراماجو وكان آخر ما كتبه صاحب رواية "العمى" هو صفحات في مدونة إلكترونية أنشأتها له زوجته بيلار ديل ريو وصديقاه سرجيو وخافيير، بهدف مواكبة العصر والتفاعل مع قرائه؛ وقال في مقدمة المدونة "لقد أخبروني أنهم قد حجزوا لي فضاء مدونة وينبغي أن أكتب لأجلها تعليقات وتأملات، آراء بسيطة حول هذا وذاك، باختصار كل ما يخطر ببالي. لكوني أكثر انضباطا مما أبدو غالبا، أجبت بنعم، وبالفعل سأفعل"؛ رغم أنه سبق واستجاب لطلب زوجته في كتابة مفكرة لتدوين أفكاره، وهو ما عرف بعد ذلك ب"دفاتر لانزاروتي". طغت على مدونة ساراماجو سطوره السياسية، خاصة ما تفعله الولاياتالمتحدة، والتي انتقدها بقسوة لاذعة في رؤيتها تجاه العالم والشرق الأوسط خاصة، فكتب عند تولي جورج بوش الابن للسلطة "أتساءل لماذا كان للولايات المتحدة، البلد العظيم في كل شيء، في غالب الأحيان مثل هؤلاء الرؤساء الصغار"، مُعتبرًا بوش الابن "أصغر الرؤساء على الإطلاق"، ونعته ب"الجاهل وبراعي البقر المثير للسخرية"، وأنه "مدشن عصر الأكاذيب"، وأنه نفذ حرفيا تعريف أحد رؤساء البرتغال للسياسة باعتبارها "فن عدم قول الحقيقة". كذلك لم يتردد البرتغالي العجوز في مدح زملائه وتقديمهم في بورتريهات عاشقة، فقدم جورج أمادو، وكارلوس فوينتس، وفرناندو بيسوا، وبورخيس، وكارلوس كاساريس، وساباتو،، ومحمود درويش وغيرهم ممن كان يقرأ لهم، وكان منشغلًا بالآخرين أكثر من نفسه، فكلما دفعه الحكي إلى ذكر نفسه أو أحد أعماله طلب من القرّاء في أن يذكرها في جمل اعتراضية قصيرة لتبقى التدوينة خاصة بالآخر. وانتزع محمود درويش في ذكرى وفاته الأولى أجمل كتابات ساراماجو في مدونته، حيث شبهه بالشاعر التشيلي بابلو نيرودا، ووصفه ب"العظيم"، واتهم العالم بالغباء لأنه لم يعرف جيدًا درويش، وكتب "لو كان عالمنا أكثر حساسية وذكاء، وأكثر وعيًا للجلال السامي للأرواح الفردية التي ينتجها، لكان اسمه الآن معروفًا على نطاق واسع ومثار إعجاب مثلما كان، على سبيل المثال، اسم بابلو نيرودا"، وأضاف "قراءة درويش، إضافة إلى كونها تجربة جمالية لا تنسى هي الركوب على متن طريق الآلام على امتداد الطرق المنكسرة للظلم والسلوك المخزي، عبر الأراضي الفلسطينية التي عانت بوحشية على أيدي الإسرائيليين"؛ وكذلك مثّلت فلسطين إحدى أهم القضايا التي اهتم بها، فرغم رفضه من حيث المبدأ للعمليات الانتحارية أو الاستشهادية، إلا أنه حمّل إسرائيل مسؤوليتها، وكتب ناقدًا "إسرائيل أمامها الكثير لكي تتعلمه إذا كانت غير قادرة على فهم الأسباب التي يمكن أن تؤدي بكائن بشري إلى أن يحول نفسه إلى قنبلة بشرية"؛ كما خصص في مدونته كتابات كثيرة للتعبير عن وقوفه مع غزة وتجريم إسرائيل التي تعتدي على المدنيين وتحطم بيوتهم، كما اتسعت المدونة لفتح قضايا شائكة كالتمييز العرقي والعنصري.