المصانع موجودة فى باب الشعرية وشبرا الخيمة تستخدم مكونات تزيد من فاعلية «الرغوة» فتسبب تهتك الجلد وسقوط الشعر المنتجات تباع فى المحال والأسواق الشعبية وتعبأ فى أكياس «ماركات شهيرة» بيزنس المنظفات 6 مليارات جنيه ومجموع العاملين به 16 ألفًا «دى مصانع بير سلم فى العشوائيات، ولا نعرف عنها شيئا».. قد تسمع تلك الجملة من أى مسئول حكومى، ليبرر العجز عن مواجهة الظاهرة، باعتبار أن تلك المصانع لا تصل إليها عيون الحكومة، لكن كيف يمكن تبرير وجود تلك المصانع فى شوارع رئيسية بقلب العاصمة، دون أن تجد من يغلقها. «البوابة» دخلت العالم السرى لتجارة المنظفات مجهولة المصدر فى مصانع بير سلم، وتقع معظمها فى حى باب الشعرية بقلب القاهرة، أو مدن قليوب وشبرا الخيمة والقناطر بمحافظة القليوبية، واللافت أن جميع أصحاب تلك المصانع لا يخفون عملهم، الذى يجرى تحت لافتات «تجارة الكيماويات والمنظفات»، ومع ذلك لا تراهم الحكومة، رغم تأكيدات أطباء وباحثين خطورة تلك المنتجات على صحة المصريين، التى تصل إلى حد الإصابة بسرطان الجلد. "قليوب".. مدينة المضروب من مدينة قليوب، الواقعة داخل نطاق القاهرة الكبرى، تخرج إلى الأسواق كميات ضخمة من المنظفات، لا تتوافر فيها الاشتراطات الصحية أو البيئية، ما جعل المدينة أكبر سوق لتجارة المنظفات «المغشوشة»، حيث يتوافد عليها تجار الجملة والموزعون من كل أنحاء مصر، لشراء تلك المنتجات التى تحقق لهم أرباحا طائلة، وبحسب مدير المكتب الإعلامى لمباحث التموين، أحمد مهران، فإن عدد المحاضر المحررة ضد أصحاب المصانع العشوائية بلغ 240 محضرا، مع ضبط كميات من المنظفات ومساحيق التجميل المغشوشة، وصلت إلى 408 آلاف و813 طنا، بالإضافة إلى 51 ألفا و255 لترا من المنظفات السائلة، و759 ألفا و599 قطعة صابون مجهولة المصدر، كما أسفرت ضبطيات مباحث التموين منذ بداية العام الجارى، وحتى منتصف أغسطس الجارى، عن ضبط 28 قضية مخالفة للاشتراطات الصناعية. من أحد الشوارع الجانبية بمدينة قليوب، بدأت رحلة «البوابة» فى عالم المنظفات مجهولة المصدر، وهناك يمكن لأى مار أن يشم رائحة الصابون السائل والكيماويات المستخدمة فى تصنيعه، من مسافات بعيدة، وحتى قبل أن نصل إلى بناية صغيرة تضم مصنع «الخلود للمنظفات»، الذى قادنا إليه «سلم» مكون من 9 درجات، وهناك استقبلنا صاحبه، الحاج يسري. وفى كل شبر من المصنع كانت العشوائية تطل علينا، فعلى يمين الباب الرئيسى تم وضع مكتب عليه دفاتر الفواتير، وأخرى لتسجيل المبيعات، وعلى اليسار امتد المصنع بطول يتراوح 6 أمتار تقريبا، أما السقف فلم يزد ارتفاعه على متر ونصف المتر فقط، بعدما اقتطع صاحبه جزءا من الارتفاع ليتحول إلى «صندرة» لتخزين البضاعة، أما الجدران فكانت عبارة على رفوف عديدة، عليها كميات كبيرة من أكياس مساحيق الغسيل، وبعضها لماركات شهيرة، بالإضافة إلى عبوات الصابون السائل والبلسم وبعض أنواع الكريم، بينما تراصت براميل بلاستيكية زرقاء اللون على الأرضية، تحتوى على مركبات حمراء وصفراء وخضراء، وفى كل واحد منها صنبوران، الأول قرب القاع لمنع التسريبات، والثانى على مسافة 15 سنتيمترا من القاع، وهو مخصص لتعبئة العبوات. وشرح لنا صاحب المصنع طبيعة الصناعة قائلا: إن «القاعدة الأساسية فى صناعة الصابون السائل، هى حدوث تعادل بين مادة السلوفنيك الحمضية ومادة الصودا الكاوية أو السليكات القلوية»، موضحا أن السلوفنيك له نوعان، عادى وغازى، الأول شفاف ونقى، لكنه لا يعطى ثقلا فى الصابون السائل، أما الثانى فهو غير نقى، لكنه يعطى ثقلا. وأشار إلى أن الكثير من مصانع بير السلم تمزج المادتين معا، دون حساب التركيبات الكيميائية أو تفاعلاتها، إذ أن «البراميل البلاستيكية تملأ 700 لتر من المياه، ثم تضاف إليها مكونات المنتج المراد تصنيعه»، موضحا «الصودا الكاوية منها صودا قشور وصودا سائلة، والأخيرة يستخدمها أغلب المصنعين، لأنها رخيصة الثمن، كما أن الكثير من مصانع بير السلم تستخدم مادة السليكات فى إنتاج الصابون، لأنه غير شفاف، ثم تتم المعادلة بين السلوفنيك والصودا عن طريق ورق الPH، ويلجأ بعض أصحاب المصانع إلى إضافة مواد كيميائية لزيادة الرغوة، دون النظر إلى خطورة هذه المواد، أو ملاءمتها كيميائيًا، مثل التكسابون N70، والجلسرين، وأكريماليد، المعروفة بعرق الصابون السائل». وبينما كان الحديث دائرا مع صاحب المصنع، كان صبى صغير يتولى تعبئة الأكياس بمسحوق أزرق اللون، دون أن يرتدى فى يديه ما يحميه من تأثير المواد الكيميائية الخطرة، فيما قال الحاج يسرى: إن «العامل المسئول عن صنع الصابون السائل، يستخدم كمية السلوفنيك فى اتجاه واحد، لمنع حدوث رغاوى، لأنها تحجز داخلها كمية من الصودا الكاوية، فيصبح الصابون قلويا بعدما كان متعادلا». وختم صاحب المصنع حديثه قائلا: «لا أبيع منتجاتى فى قليوب وحدها، وإنما إلى تجار فى محافظات مختلفة، عبر استئجار سيارة نصف نقل، والتجول بها لتوزيع المنتجات على عدد من المحال والأسواق الشعبية»، لافتا إلى أنه تتم تعبئة المنتجات فى عبوات بلاستيكية أو أكياس خفيفة معاد تصنيعها، نظراً لرخص سعرها، رغم أن بعضها ليس مناسبا لوضع مواد كيميائية فيها، خاصة مع فترات تخزين تتجاوز العام أحيانا. باب الشعرية.. كيماويات للبيع يعتبر حى باب الشعرية أهم سوق لمستلزمات صناعة الصابون السائل، ففى شارع الجيش الرئيسى، تتكدس محال بيع الكيماويات، التى أعطت المنطقة شهرتها، وقال لنا «أشرف»، صاحب أحد محال الكيماويات فى المنطقة، إن أغلب ورش صناعة الصابون السائل تشترى مستلزماتها من سوق الكيماويات بالحي. وقال «سعيد»، صاحب محل للكيماويات ومصنع للصابون، إن «مادة السلوفنيك، المستخدمة فى تصنيع الصابون السائل، تباع فى جراكن زرقاء اللون سعة 63 لترا، بسعر 580 جنيها للعادى، بينما يتراوح سعر الغازى منها بين 610 و650 جنيها، أما مادة الصودا الكاوية فيباع الكيلو جرام منها بسعر 6 جنيهات، فيما يصل سعر جوال التكسابون، سعة 25 كيلو إلى 150 جنيهاً، كما يحتاج أصحاب المصانع إلى استخدام مادة السليكات، وهى الأرخص فى مكونات التصنيع». وأشار إلى أن «أصحاب المصانع لا يكتفون بصناعة الصابون السائل، وإنما يصُنعون منتجات أخرى، مثل الشامبوهات والبلسم وبعض أنواع الكريمات». 6 مليارات جنيه حجم الاستثمار الرسمي قال رئيس شعبة صناعة المنظفات باتحاد الصناعات، المهندس فكرى عبد الشافى، إن إنتاج المنظفات الصناعية السائلة فى مصر يقدر ب218.3 ألف طن سنوياً، بالإضافة إلى 8 آلاف و340 طنا من المنظفات السائلة المضاف إليها مطهرات، و232 ألف طن منظفات منخفضة الرغوة، و294 ألف طن من المنظفات عالية الرغوة، فيما يبلغ حجم الاستثمار فى صناعة المنظفات 6.22 مليار جنيه، ويقدر عدد الشركات المسجلة رسميا 368 شركة، بإجمالى عمالة تصل إلى 26 ألفا و386 عاملا. وحذر عبدالشافى من خطورة استخدام مصانع بير السلم لمواد كيماوية غير صالحة، أو تخفيف المواد الفعالة فى المنظفات، بما يعطل عملها، أو يجعلها بلا قيمة، مشيرا إلى أن «عدم خلط المواد الكيميائية بشكل سليم ومنضبط يهدد بحدوث إصابات خطيرة لمستخدمى تلك المنتجات، نظراً لعدم وجود التزام بالنسب الكيميائية المتعارف عليها، فالعناصر المكونة للمنظف يجب أن تكون متجانسة كيميائيا، وثابتة، وقادرة على الاحتفاظ بخصائصها تحت تأثير إجراءات التحضير، ويجب مراعاة نوع العبوة المستخدمة فى تعبئة المستحضر، فأغلب مصانع بير السلم تستخدم عبوات مستعملة، ما يمثل خطورة على المستهلكين، نظرا لعدم ثبات مكوناتها، أو لاحتوائها على ميكروبات». من جانبه، قال مدير مركز القاهرة للدراسات الاقتصادية، الدكتور عبدالمنعم السيد، إن مصانع بير السلم الخاصة بالمنظفات تخالف ضوابط نظم التشغيل الصناعية، التى تلزم أصحاب المصانع بالحصول على موافقة الهيئة العامة للتنمية الصناعية، وتقييد المصنع فى السجلات الصناعية الدائمة أو المؤقتة، ثم الحصول على شهادة قيد فى السجل التجارى، وشهادة تأمين على العمال، خاصة أنهم يمارسون أعمالا قد تؤثر على صحتهم، مضيفا «يستلزم إنشاء مصنع للمنظفات الحصول على ترخيص من إدارة المبانى بعدم وجود مخالفات بنائية، وموافقة من إدارة الحماية المدنية على رخصة التشغيل، والتحقق من تنفيذ اشتراطات الوقاية من الحرائق». شعبة الأدوية تحذر من السلكيات حذر رئيس شعبة الأدوية فى اتحاد الغرف التجارية، على عوف، من خطورة المواد الكيميائية المستخدمة فى صناعة الصابون السائل بمصانع بير السلم، موضحا أن «المواد الكيميائية المستخدمة فى صناعة منظفات بير السلم، وهى التكسابون والسلوفنيك وعرق الصابون والبوتاس والسليكات، لا يمكن استخدامها جميعاً فى وقت واحد، نظرا لأن الخواص الكيميائية لكل منها مختلفة عن الأخرى، ما قد يؤدى إلى حدوث تركيبات غير مطابقة». وشدد على خطورة مادة السليكات، لما تسببه من حساسية شديدة فى حالة استخدامها بطريقة غير آمنة، مطالبا بتشكيل لجنة لمنع الغش، تكون مختصة بمتابعة ملف غش الأدوية والمنظفات ومساحيق التجميل، باعتبارها ترتبط مباشرة بصحة الإنسان، فيما علق على شراء الصيدليات لتلك المستحضرات مجهولة المصدر، قائلا إن «بعض الصيدليات تشترى منتجاتها من تجار الجملة فى العتبة وشبرا، وهى أماكن غير مضمونة». أخطار سقوط الشعر أكد رئيس المركز القومى للبحوث السابق، الدكتور هانى الناظر، أستاذ الأمراض الجلدية، أن المنظفات المضروبة فى مصانع «بير السلم» تتسبب فى الإصابة بالحساسية الجلدية، كما تصيب الجلد بالتهتك، موضحا أن «مستخدمى تلك الأنواع يصابون عادة بالإكزيما التلامسية، وهو نوع من الحساسية يصاحبه حكة جلدية، ما يؤدى إلى توتر نفسى». وأشار إلى وجود وحدة فى المركز القومى للبحوث مختصة بفحص المنظفات والشامبوهات، ومنع الموافقات على صلاحية أى منتج للاستعمال، موضحا أن الوحدة رفضت عددا كبيرا من المنظفات والشامبوهات نظرا لخطورة تركيباتها على صحة الإنسان. ومن جهتها، قالت أستاذ الأمراض الجلدية، الدكتورة وفاء علم الدين، إن «مادة الكراتين الموجودة فى تكوين الشعر وبشرة الجلد، تتأثر بالمواد الكيميائية المستخدمة فى صناعة المنظفات المغشوشة، ما يؤدى إلى احمرار فروة الرأس، ثم تلف الشعر وسقوطه»، مضيفة أن «المنظفات المغشوشة تؤثر على الغشاء المائى الدهنى للجلد، المختص بالحفاظ على رطوبة الجلد، وحمايته من الأضرار الخارجية، فالمواد الكيميائية غير المطابقة للمواصفات الموجودة فيها تتسبب فى تهيج الجلد، ومع تكرر الإصابة بالحكة الجلدية والفقاقيع، قد يصُاب الشخص بسرطان الجلد، كما تؤثر تلك المواد الكيميائية على نسبة السوائل فى الجسم، وهى ضرورية للأداء الحيوى لوظائف الخلايا». "حماية المستهلك": الضبطيات كثيرة قالت رئيس جمعية حماية المستهلك، سعاد الديب، إن قانون حماية المستهلك ينص على توقيع غرامة تتراوح بين 5 آلاف جنيه و100 ألف جنيه فى حالات الغش التجارى، وتتضاعف الغرامة إذ تكررت المخالفات، موضحة أن «العقوبات تتعدى الغرامات فى حالات الإضرار الجسدى المباشر أو غير المباشر بالإنسان، فعندها يتم تطبيق قانون الغش التجارى، الذى يعاقب المخالف بالحبس مدة لا تقل عن سنة، ولا تزيد على 5 سنوات، بالإضافة لغرامة لا تقل عن 5 آلاف جنيه، ولا تتجاوز ال20 ألفا، كما تطبق مواد الغرامة والسجن حتى لو كان المستهلك على علم بغش أو فساد البضائع، على أن تتولى المحكمة الاقتصادية نظر الدعاوى القضائية». وأشارت إلى تحذير جمعيات حماية المستهلك من تداول أى منتجات لها علاقة مباشرة بالأعضاء الحساسة فى جسم الإنسان، ومنها العيون أو الأنف، إذا كانت تلك المنتجات مجهولة المصدر، كما شددت على ضرورة أن يحصل المشترى على فاتورة عند شراء أى منتجات، باعتبارها تمثل تعاقدا مع البائع، حتى يضمن المشترى سلامة المنتج، مضيفة «كما حذر جهاز حماية المستهلك من شراء أى منتجات من إعلانات مضللة، أو ذات عبوات منبعجة أو متسخة، واللافت أن الكثير من المواطنين لا يقدمون شكاوى إذ كان سعر المنتج المغشوش بسيطا، رغم ما فى ذلك من إهدار لحقوقهم، بالإضافة إلى أنه يحول هذه المنتجات المغشوشة إلى وحش يلتهم المنتجات السليمة، ما يجعل سوقا مثل سوق المنظفات المغشوشة رائجة». ومن جهته، قال رئيس لجنة الصحة العامة وحماية المستهلك فى محافظة الجيزة، الدكتور عصام رمضان، إن انخفاض سعر المواد الأولية لصناعة الصابون السائل والمنظفات، وسهولة طريقة التحضير، من الأسباب الرئيسية لانتشاره فى البلاد، موضحا أن «مصانع بير السلم تستخدم غالبا مواد منتهية الصلاحية أو فاسدة»، وطالب المواطنين بالامتناع عن شراء أى منتجات مجهولة المصدر أو مقلدة، لأن ذلك يعطى «مشروعية» لمصانع بير السلم، كما دعا إلى الإبلاغ عن أى شخص يصنع تلك المنتجات دون تراخيص، خاصة المنتجات المتعلقة بصحة الإنسان.