«ماكسميليان روبسبيار» مزيج غريب من الريبة السياسية الحادة والعداء الشخصى لكل من يختلف معه، الأمر الذى حمله إلى طريق التفرد خلال الثورة، هكذا أشارت المؤلفة الفرنسية «روث سكور»، إلى بعض المفاتيح التى تفصح عن شخصية روبسبيار، إضافة إلى ذلك، هناك صورة أُخرى يرسمها عن نفسه باعتقاده بأنه لم ولن يُخطئ إطلاقاً، ويرى نفسه مصدراً أوحد للقانون، حاله حال كل الطغاة فى التاريخ القديم والمعاصر. نشأ المحامى السفاح بمدينة أراس الفرنسية فى أسرة فقيرة، حيث كان أبوه عاطلا عن العمل ومبذرا، وماتت أمه وعمره ست سنوات، ولهذا اتسمت حياته بمسحة حزينة من ناحية، ويملؤها الحقد والغل من ناحية أخرى، «رجلٌ، لم يمر بمرحلة الشباب»، كما كتبت عنه شقيقته ذات مرة، إلا أنه كان ذكياً، واختير من بين جميع طلبة القانون ليلقى خطابًا بمناسبة تتويج لويس السادس عشر عام 1775، لقد عانى «روبسبيار» مثل ملايين الفرنسيين من عامة الشعب من الفقر والحرمان، وكان يحلم مثلهم بالتخلص من هذه الأنظمة الفاسدة والعيش فى دولة حرة يسودها الإخاء والمساواة والعدل. انتخب «روبسبيار» نائبًا لرئيس مجلس الطبقات، الذى اجتمع عام 1789 عشية اندلاع الثورة الفرنسية، ثم التحق بالجمعية التأسيسية الوطنية «المكونة من ممثلى الشعب»، حيث لمع نجمه ولفتت خطبه وأحاديثه البارعة الأنظار إليه، وفى عام 1790 انتخب رئيسًا لأحد الأحزاب المعارضة، وازدادت شعبيته كعدو للملكية ونصير للديمقراطية، وعقب سقوط الملكية فى فرنسا عام 1792 انتخب أول مندوب لباريس فى المؤتمر القومى الذى ألح فيه على مطلب إعدام الملك لويس السادس عشر وعائلته، فبعدما كان ينادى بإلغاء حكم الإعدام نجده فى هذا المؤتمر يناقش بحماس لصالح تنفيذ حكم الإعدام بحق الملك قائلاً: «يجب على لويس أن يموت، لأن الأمة يجب أن تعيش» وهو ما تحقق عام 1793. وسرعان ما انتخب روبسبيار عضوًا فى الهيئة التنفيذية العليا ولجنة الأمن العام، بل وسيطر عليها بعد أن تخلص من جميع منافسيه، وعلى رأسهم عدد من زعماء الثورة الفرنسية مثل «دانتون» و«هيبير» و«ديمولان»، ليصبح بذلك الزعيم الأوحد فى فرنسا، حيث اتهم بارتكاب عدد من الفضائح والأهوال ما لن يمحيه التاريخ أبدًا، وصارت المقصلة هى أداته المفضلة فى إقامة مجتمع الإخاء والمساواة والعدل. وفى 14 يوليو 1789 بدأت أحداث الثورة الفرنسية، وبدأ معها مسلسل مخيف من القتل الجماعى، وذاع صيت طبيب يدعى «جيلوتين» لاختراعه آلة قتل عرفت باسمه «المقصلة»، التى حصدت أرواح العديد من الأبرياء تحت شعار الثورة التى لم تكن فى الواقع إلا فوضى وتسارع بربرى نحو القتل الجماعى، فحكم الإرهاب، كما يطلق عليه الفرنسيون على الفترة الأخيرة من الثورة، غاب فيه المنطق حيث تولى زمام الأمور فيها روبسبيار الذى يعد بحق واحدًا من أشهر السفاحين الذين أنجبتهم البشرية. فكان أول مظاهر هذه الموجة هو إرساله ل«الجيش الثوري» من باريس إلى المدن الصغرى والقرى ومعه مقصلة متحركة تقوم بتصفية معارضيه، وأخذ «روبسبيار» يطارد ويعدم «أعداء الثورة» كما كان يطلق على كل من يخالفه فى الرأى، ثم وسع نطاق مطارداته لتضم من سماهم بالثوريين الزائفين ووصلت مقصلته إلى رقاب المعتدلين، بل وامتدت إلى العديد من زعماء الثورة أنفسهم. ظلت المحكمة الثورية تعمل بجد ونشاط، ولعل ما هون عليها مهمتها صدور «قانون المشبوهين» أو قانون «المشتبه فيهم» فى سبتمبر 1793، الذى يسمح بالاعتقال والسجن دونما حاجة إلى تقديم الدليل، فازدحمت السجون، وأصبح الرجال والنساء المقدمون لمحكمة الثورة يشكلون سيلًا لا ينقطع، وخلال تسعة أشهر من الإرهاب حكم رسميًا على 16 ألف شخص بالموت، حيث تعد من أشهر الضحايا، الملكة مارى أنطوانيت باعتبارها العدوة الأولى للثورة، كما أنه فى 6 نوفمبر أعدم الدوق فيليب، دوق «أورليان» رغم أنه أحد مؤيدى الثورة. وزاد الضغط على المقصلة حيث كان يتم تنفيذ حكم الإعدام فى أكثر من خمسين شخص يومياً، واخترع «روبسبيار» مجموعة فريدة من التهم يعاقب مقترفوها بالإعدام، «كالتعرض للوطنية بالسب والقذف»، «بث روح اليأس لدى المواطنين»، «ترويج أخبار كاذبة»، «انتهاك الأخلاقيات»، «إفساد الضمير العام» و«تعكير الطهارة الثورية»، ومن أجل الإسراع بهذه الإجراءات صدرت جملة من القوانين بمنع محامى الدفاع أو استدعاء أى شهود، ليكون الحكم دائمًا الإعدام. حيث دعا جميع المواطنين إلى الوشاية بالخونة، وأزيلت الحصانة عن أعضاء المؤتمر التى تحول دون القبض عليهم، فكان هذا بمثابة السيف على رقابهم، إذ قرر أعضاء المؤتمر الإطاحة بالطاغية، وتم تجهيز حملة عسكرية اقتحمت دار البلدية، حيث كان يجتمع روبسبيار مع أعوانه، ونجحت إحدى الرصاصات التى أطلقت عليه فى إصابة فكه، وتمت محاكمته وأدين بتهمة الخيانة العظمى، واقتيد إلى المقصلة التى طالما استعملها لقطع رؤوس الناس، وفى صباح 27 يوليو 1794 اصطف الآلاف من الناس فى الشوارع لرؤية الطاغية الثورى، وهو يساق إلى حتفه، بعد أن سجن ساعات قليلة فى نفس الزنزانة التى سجنت فيها مارى أنطوانيت، قبل تنفيذ الحكم مباشرة نزع الجلاد بعنف الضمادة التى ضمد بها فك «روبسبيار» المهشم، لتنطلق منه صرخة ألم مدوية لم يسكتها إلا سقوط نصل المقصلة على عنقه ليفصل رأسه عن جسده ويصمت إلى الأبد.