لم يكن يدرك الشيخ محمد عبد الصمد، أحد كبار المقرئين بقرية «المراعزة»، التابعة لمركز «أرمنت» بمحافظة قنا، عندما جاءه نبأ ولادة زوجته أن الطفل القادم سيلقب يومًا من الأيام بلقب «الحنجرة الذهبية» و«مقرئ مكة»، وسيؤسس مدرسة خاصة به في «دولة التلاوة». بدأت رحلة تميز الشيخ عبد الباسط عبد الصمد باستماعه للقرآن الكريم في مساجد ومقابر «أرمنت»، وكان يسير عدة أميال للاستماع إلى الراديو الوحيد الموجود في قريته، والذي يبعد أميالًا عن منزله. ثم بدأ «احتراف القراءة» صبيًا، بتلاوة القرآن في مأتم أحد أفراد عائلته، لمدة 10 ساعات من الليل حتى طلوع الشمس، ليحصل على «عشرة قروش فضة»، اشترى بها كأى طفل «حلوى»، وادخر الباقى في «حصالة حلمه»، إذ كان يخطط للسفر إلى القاهرة، ومنذ تلك الليلة أصبح مطلوبًا لدى الأعيان والعمد والأثرياء وصار جدول أعماله ممتلئًا طوال الشهر. توجه عام 1950 نحو مسجد «السيدة زينب»، مستمعًا لعمالقة القراءة آنذاك، وبعد أن خلع نعليه ودخل المسجد، استمر القراء الكبار في تلاوتهم حتى أدركهم التعب جميعًا خلال الليلة الختامية للمولد، فدعاه بعض من يعرفونه للقراءة، ليكسر الملل وحتى يرتاح الشيوخ الكبار ويستأنفوا قراءاتهم. بدأ في القراءة فإذا بالمسجد يمتلئ لحظة بعد أخرى، يرغب في الوقوف ليستأنف الشيوخ الكبار تلاوتهم، فيشيرون له بالاستمرار، حتى استمر قارئًا حتى مطلع الفجر. بدأت شهرته منذ تلك الليلة وتوافدت عليه عقود إحياء «الليالي»، حتى وصل أجره إلى 10 جنيهات، فاختار البقاء في إحدى «اللوكاندات» بالسيدة زينب، وتقدم للإذاعة ليبلغ أجره 12 جنيهًا، حتى وصل أواخر أيامه إلى نحو 300 جنيه في الليلة الواحدة. حكايات «الشيخ عبد الباسط» فريدة تفرد صوته، أشهرها تقدم الملك المغربى محمد الخامس، بطلب إلى السلطات الفرنسية خلال إقامته في منفاه الإجباري، للاحتفاظ بأسطوانات الشيخ، خاصة أن الملك إبان حكمه دعاه ليقرأ له وحده داخل القصر الملكى في مراكش. كما وقف المعجبون في العاصمة الإندونيسية «جاكرتا» بالساعات للاستماع إليه خارج «المسجد الكبير» هناك، وبلغ عددهم نحو ربع مليون يستمعون إليه وقوفًا على الأقدام حتى مطلع الفجر. وفى الهند وخلال زيارته لإحياء احتفال دينى كبير أقامه أحد الأثرياء المسلمين، فوجئ «الشيخ عبد الباسط» بجميع الحاضرين يخلعون الأحذية ويقفون على الأرض متخذين شكل «الركوع»، وأعينهم تفيض من الدمع حتى انتهائه من تلاوته، لتذرف عيناه الدمع تأثرًا بهذا الموقف المهيب. كما رفض الاستمرار في العاصمة الفرنسية باريس وغادرها بعد 3 أيام فقط من وصوله لعدم وجود مستمعين، بعد أن قضاها متجولًا على ضفتى «نهر السين» بالجبة والقفطان. أطلق الصحفيون عليه لقب «براندو» مشبهين إياه بالممثل الأمريكى الشهير، للدلالة على وسامته، وثارت حوله شائعات تحوله ل «معبود نساء الشرق»، بجانب قصة ملاحقته من سيدة سورية، ما دفع زوجة الشيخ لأن تطلب منه الطلاق ردًا على تلك الشائعات، ودفعه لإصدار بيان نفى فيه وجود أي علاقة مع تلك «السورية» التي اتهمه السوريون بخطفها من زوجها. وجاء في بيان الشيخ، الذي نشرته مجلة «أهل الفن» عام 1955: «زوج هذه السيدة، تعرف بي، وترجانى أن أعمل على إلحاق زوجته بمحطة الإذاعة المصرية، لأنها تهوى الموسيقى والغناء، وكنت أحسب أننى أستطيع إسداء معروف إليها، لأرد للسوريين بعض ما أدين لهم به من كرم وود، غير أن السيدة السورية تعجلت وجاءت إلى مصر، وقصدت منزلى الذي أقيم فيه مع زوجتى وأولادى الخمسة، وسألتنى عما تم في أمرها، وكنت علمت أننى لن أستطيع أن ألحقها بالإذاعة، فكاشفتها بحقيقة الأمر، وكلفتها بالعودة إلى بلدها.. فجأة كاشفتنى هي برغبتها في الزواج منى، وأخبرتنى أنها طلقت من زوجها، وأنها لا تستطيع العودة إلى سوريا.. فهالنى الأمر وعرضته في الحال على بعض المسئولين، واتصلت ببعض موظفى الجوازات ليعملوا على عودتها إلى سوريا، فأخذت هي تتصل ببعض الأوساط، واستغل بعض الحاقدين هذه الفرصة لينالوا من كرامتى وسمعتي». كما عشق «الشيخ عبد الباسط» موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، لاسيما أغنيته: «فايت على بيت الحبايب»، وكان يرى أن عبدالحليم «مش بطال»، وأن «أم كلثوم» معجزة لن يجود بها الزمان مرة أخرى، فهى في الطرب معجزة كما هو محمد رفعت في التلاوة، فيهما سحر من عند الله، ويسحره أداء فاتن حمامة ويوسف وهبي، وكشف محمود السعدنى في كتابه «ألحان السماء» أن «الشيخ عبد الباسط» كان يرد على خطابات معجباته ب «خطابات بنفسجية اللون». سأله أحد محررى الصحف: «من أحسن راقصة؟» فأجاب: «يقولون تحية كاريوكا»، فسأله: «هل رأيتها ترقص؟»، فرد: «أستغفر الله العظيم.. أبدًا»، وكان دائمًا يخشى الصحف ووسائل الإعلام حتى إن المقربين منه سمعوه يدعو الله يومًا: «امنحنى الستر، واكتفاء شر النساء، وموسى صبري»، واستمر هذا الصراع مع الصحافة والعاشقات للشيخ حتى نال مرض «السكر» منه وهو في عز شبابه، وتوفى بجوار قبر الرسول بالمدينة المنورة.