عبد الحق بن إبراهيم بن نصر بن سبعين الأشبيلي المرسي، لقبه البعض ب"قطب الدين"، أحد أعمدة الفلاسفة الإسلامية، ولد سنة ستمائة وأربعة عشر، درس العربية والآداب في الأندلس وبرع في العلوم العقلية والفلسفية حتى أجاب عن أسئلة الإمبراطور فردريك الثاني الفلسفية التي كانت تعجز العلماء والباحثين الفلاسفة قبل ابن سبعين. أختلف أصحاب الراي على فكره، ولكن اتفق الكثير على زهده وورعة، خاض معارك كثيرة مع الفقهاء، وكانت له رحلات في الهروب منهم. ظهرت علامات النبوغ على ابن سبعين مبكرًا، والف أول كتاب له والمعنون ب"بد العارف"، وهو ابن الخامسة عشر، والذي يحتوي على الكثير من الصنائع العلمية والعملية والأمور السنية، واعتبر ذكائه خارقا للعادة. وفي المرحلة الثانية من حياته بدأ بارتحاله من مرسية نحو 640 ه إلى بعض بلاد الأندلس ثم شمالي أفريقيا. ومع الوقت أصبح الشيخ صاحب الطريقة السبعينية، وعن السبب حول كنيته بأبن سبعين، فهو كان يلقب نفسه بابن داره، والدارة في الحساب تقابل حرف ال"ع"، وهو يقابل رقم سبعين. اتهمه الفقهاء بالكفر، فعاش مطاردًا ولجأ إلى مدينة سبتة المغربية، بعد أن حاربه فقهاء الأندلس، وعشقته امرأة في هذه المدينة الساحرة، وطلبت أن يتزوجها فاشترط عليها أن تبني له زاوية في حديقة المنزل، فمكث بها عشر سنين والف بها أهم كتبه، ومنها الرسائل، وبد العارف. في المغرب التف حوله الكثيرون ينهلون من علمه وتصوفه وفلسفته، وحكوا عن زهدة وورعه، فزاد من غيرة الفقهاء، فرموه بالكفر، وسعوا لدى حاكم سبته وكان يدعى في ذلك الوقت ب"ابن خلاص"، لطرده من المدينة فاستجاب له. اتهموه بأنه أنكر النبوة الخاتمة، ونسبوا إليه جملة "لقد تحجر أبن آمنة واسعًا بقول لا نبي من بعدي"، إلا أن هذا الاتهام كان كيديًا لأنه كان معظم النبوة ويؤمن ويحب الرسول الكريم وآمن بما جاء به، وكانت رسائله أكبر برهان على ذلك. وكانت أفكار ابن سبعين تهاجم الفلاسفة لأنهم يقلدون أرسطو تقليدا أعمى وذلك حسب زعمه، وهاجم بعنف الفارابي وابن سينا أو من اسماهم بالمشارقة، وكان له موقف من الفقه والكلام والتصوف منطلقا من موقفه القائل بالوحدة المطلقة، والتي ينبغي على القائل بها أن يصل إلى رتبة (المحقق) أو أن يكون ملما بعلم التحقيق، وبعبارة أخرى فان الوحدة المطلقة عند ابن سبعين تكون هي موضوع علم التحقيق، ذلك العلم الذي يحوي صاحبه كل الكمالات الوجودية والذوقية. يرى ابن سبعين إن الفقيه يستند إلى الشريعة، والتي هي حق بلا شك، إلا أنه يرى إن الفقيه يفسد الشريعة بتقديمه تذريعات عديدة تتفرع من الأحكام التي يستخرجها منها ويرى أيضا أنه "الفقيه" يفتي أحيانا من عند نفسه بفتاوى قد تختلف مع الشريعة، ويتمسك كثيرا بالتقليد الأعمى فيقيس اليوم بالأمس، ويدع الكثيرين فهم الكتاب والسنة في ذلك والأمر ليس كذلك، ويرى ابن سبعين إن ذلك التصرف ينفر الناس من الشريعة ويصدهم عنها، وبالجملة فإن الفقيه حسب رأي ابن سبعين فهو في ضلال ليس بعده ضلال ويقول في ذلك: " وأما الفقيه فهو صالح الأصل "يقصد الشريعة التي يستند إليها وهي في ذاتها صالحة"، فاسد الفرع، صادق الجنس كاذب النوع، يتكلم من عند نفسه، ويقيس اليوم بأمسه، ويفتي السائل، ويترك نفسه في رتبة المسئول، يزعم أنه يفهم كلام الرسل وخير الرسل، ويعلل دينه ويتممه برأيه واجتهاده، ويعطل قوله على خبر الذي أخرجه من عباده، ويدفع اليقين بالجهل، ويفعل فعل أبي جهل، يحجب نور الله عن عباده بالفروع المعللة، ويتصرف فيهم بغير الكتب المنزلة، ويصد الناس عن موارد الشريعة وريحانها، ويحضهم على حميمها وغسلينها". رحل ابن سبعين إلى مصر ومكث مدة قصيرة لأنها كانت في طريق مكة التي كان متجهًا إليها، والتي دخلها عام 652 ه، واستقر بها وصار استاذًا لأميرها أبي محمد بن أبي سعد. ويقول المناوي واصفًا حال ابن سبعين في مكة: "شاع ذكره وعظم صيته، وكثرت أتباعه على رأي أهل الوحدة المطلقة، وأملى عليهم كلامًا على رأي الاتحادية، وصنف في ذلك أوضاعًا كثيرة تلقوها عنه وبثوها في البلاد شرقًا وغربًا". استقبل طعنات الحنابلة الذي لم يختلف موقفهم معه عن نظائرهم بالمغرب، وكان ابن سبعين يقاومهم بل وزاد الأمر وصار ينتقدهم انتقادًا شديدًا، واتهمهم بافساد الشريعة، وانتقد التقليد الأعمى للفقهاء الذين يقيسون به اليوم عن الأمس، فكيف لهم من وجهة نظرة يبحثون عن أزمات ومشاكل اليوم بحلول ماضية. وقد انتقل تصوف وحدة الوجود من الأندلس والمغرب إلى المشرق على يد ابن عربي، وابن سبعين اللذين استقر بهما المطاف في المشرق حيث نشرا تعاليم هذا النوع من التصوف، ويعتبر تصوف وحدة الوجود هو التصوف المبني على القول بأن ثمة وجودًا واحدًا فقط هو وجود الله، أما التكثر المشاهد في العالم فهو وَهْمٌ على التحقيق تحكم به العقول القاصرة، فالوجود إذًا واحد، لا كثرة فيه. وقد خَلَّفَ ابن سبعين واحدًا وأربعين مصنفًا تقريبًا، تناول تصوفه من ناحيتيه النظرية والعملية، وتختلف طولًا وقصرًا، وكثير منها مفقود. وقد نشر الأستاذ الدكتور عبد الرحمن بدوي رسائله المحفوظة في الخزانة التيمورية بعنوان: (رسائل ابن سبعين)، الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة 1965م، وهي رسائل هامة في الإبانة عن مذهبه. ونشر الأستاذ شرف الدين بالنقايا رسالة (جواب صاحب صقلية)، بيروت 1941. على أن أهم مصنفات ابن سبعين وهو كتابه "بد العارف" –البد عنده بمعنى المعبود، وأسلوب ابن سبعين في مصنفاته على اختلافها رمزي شديد الخفاء والتعقيد، وهو يستخدم أحيانًا في كتبه رموزًا على طريقة علماء الحروف والأسماء تعبيرًا عن مذهبه، وهو معدود من المشتغلين بهذا العلم، وصنف فيه بعض مصنفاته، فكلامه مفكك، قليل الاتصال، حتى قال قاضي القضاة ابن دقيق العيد: "جلست مع ابن سبعين من ضحوة إلى قريب الظهر وهو يسرد كلامًا تعقل مفرداته، ولا تعقل مركباته". وكذلك يتسم كلامه بكثرة ما يرد فيه من ألغاز وإشارات بحروف أبجد، وله تسميات مخصوصة في كتبه هي نوع من الرموز كما قال أبو العباس الغبريني صاحب كتاب عنوان الدراية. فمن كلامه الغريب مثلًا ما يكرره في كتاب الإحاطة من عبارة: "إيه! أو قوله: "الله فقط" وتكرار لكلمة "إيه" اثنتي عشرة مرة في سطر واحد، واستعماله حروف أبجد بطريقة من الصعب استخراجها، كقوله في رسالة "الألواح": "علمه في الإنسانية إنسان، وفي ح ح، وفي ن ن، وفي ج ج، وفي علالمية علم، وفي العاقلية عقل". ومن أغرب كلامه الشاطح قوله في ختام "الرسالة الفقيرية": "السلام على المنكر والمسلم، والعالم والمتعالم، والغالط والمتغالط". وثقافة ابن سبعين كما تبدو من مصنفاته واسعة متنوعة، فهو قد عرف مذاهب فلاسفة اليونان، والفلسفات الشرقية القديمة كالهرمسية، والفارسية، والهندية، ووقف على مذاهب فلاسفة المشرق كالفارابي وابن سينا، وفلاسفة المغرب كابن باجة، وابن طفيل، وابن رشد، وله إلمام واضح بما تضمنته رسائل إخوان الصفا، ومعرفة دقيقة بمذاهب المتكلمين خصوصًا الأشعرية، وعلمه بمذاهب التصوف دقيق، ويتبين هذا كله من نقده لمن تقدمه من فلاسفة، ومتكلمين، وصوفية، وهو إلى جانب ما تقدم عميق المعرفة بمذاهب الفقه الإسلامي. توفي ابن سبعين سنة 669 ه، ويقول أبرز المؤرخين مثل أبن كثير وابن الخطيب والتنبكي، وابن عماد وابن تغري بردي الاتابكي والغريني أن موته كان طبيعيًا، إلا أن هناك روايات أخرى تقول أنه أنتحر مثلما ذكر ابن شاكر الكتبي في وفات الوفيات، ولكن هذه الرواية تنسب إلى كارهي الرجل.