في ورشة كبيرة تقع على ضفاف شاطئ الأنفوشي بمنطقة بحري غرب الإسكندرية، يقف رجل في الخمسينات من عمره.. حين ترى وجهه، تتيقن أنه عاش رحلة من الشقاء والتعب حيث لون بشرته ممزوج بلون الشمس محترقًا من شدة حرارتها ومختلطًا بملوحة البحر، ممسكًا بالمنشار الخشبي ويقوم بتصنيع أحد المراكب الشراعية الصغيرة يتفنن في شكلها الجمالي وكأنها قطعة فنية يقوم بنحتها. رحلة مع صانع السفن يعمل محمد محمود قاسم، والشهير “,”بحضورني“,”، صاحب ورشة لتصنيع السفن ومراكب الصيد والقوارب واليخوت، منذ 37 عاماً في تلك المهنة الشاقة، حيث بدأ عمله وهو سن صغيرة فكان يبلغ 14 عاماً، واستمر في هذه المهنة حتى الآن لعشقه لها، يرسم الرسومات الهندسية الخاصة بالسفن بذاته دون الاستعانة بأحد على الرغم من إنه لا يقرأ ولا يكتب بل إن كل تعلمه هو الخبرة التي حصل عليها من أجداده الذي توارث عنهم المهنة. التقى “,”البوابة نيوز“,” ب“,”حضورني“,”.. والذي قال في البداية إنه تربى في تلك المنطقة وسط رائحة البحر وبين المراكبية والصيادين والنجارين الذين يعملون معه في صناعة السفن والقوارب واليخوت، مؤكداً الى أن مهنته علمته الصبر والرجولة والأخلاق وجدعنة ولاد البلد. يبدأ حضورني يومه في العمل بالقدوم إلى ورشته في تمام الساعة السابعة من صباح كل يوم، ويقول أقوم بتنظيف الورشة من بقايا الأخشاب والنواشر ثم يرش المياه عشان تجيب الخير والبركة على الأرض، على حد تعبيره، ثم أقوم ببدء استكمال العمل في القوارب التي كنت أعمل بها في السابق حتى انتهى منها وأسلمها لأصحابها. الصناعة حرفة وليست “,”علم“,” أنا متعلمتش ولا أخدت شهادات، ومبعرفش أكتب ولا أقرأ، واشتغلت مع خالي اللي علمني المهنة وأنا عيل عندي 14 سنة لعشقي في المهنة والبحر، وكانت أول يومية آخذها كانت عبارة عن 10 صاغات غداء و25 قرشًا آخر اليوم وفي الأسبوع الحصيلة 2 جنيه، هكذا عبر حضورني عن سعادته بمهنته. ويذكر أول مركب صنعهتا في حياتي، كان عمري 14 عامًا حيث كنت أجد ضابطا بحري يأتي لمشاهدتي وأنا بعمل كنت مستعجبًا لما يفعله، حتي جاء يوم وطلب مني أن أصنع قارب صيد صغير له وسألني عن تكلفته، قلت له 5 آلاف جنيه دون أن أفكر ووافق بالفعل وصنعت له القارب وأعجب به جدا، مؤكدا لي أن هذا الرجل أثر كثيرًا في حياته لأنه شجعه على العمل. ويشرح حضورني طبيعة عمله، أول خطوة في تصنيع المركب أي كانت للصيد أو يخت بحري هو إعداد الرسوم الهندسية، مؤكدا لي أنه يقوم برسمه بذاته دون الاستعانة بأي خبراء أو مكتب هندسي لأنه يؤكد ان الرسم الجيد بالخبرة والفن وليس محتاجا لتعليم أو شهادات. ويضيف: الخطوة الثانية هو أن نأتي بالمواد أي كانت خشب أو حديد والمعروف ان الخشب غير أمن في البحر ويعرض السفن للغرق لذلك سعره رخيص عكس الحديد فتكلفته عالية ثم أستعين بكل من“,”السباك والبوهيجي والميكانيكي والحداد والكهربائي والنجار“,” وكل فرد له مهمة. ويوضح: تستغرق عملية تصنيع المركب من 6 أشهر الى عام كامل حسب إمكانيات المالك، مشيرا الى ان تكلفة اليخت تبدأ من نصف مليون جنيه وتصل الى نحو 18 مليون جنيه، مؤكدا الى ان تكلفة مركب الصيد الحديد تصل 600 الف جنيه بينما سعر المركب الخشب يصل 130 ألف جنيه، لافتًا الى انه صنع 20 مركبًا وسفينة طيلة حياته. المهنة تندثر بفضل الثورة ويؤكد حضورني إن عمله تأثر كثيرا بعد الثورة وأصبح شبه متوقف تماما، حيث أصبح السوق في ركود وكساد غير عادي حتي وصل بي الأمر الآن أن أقوم بتصنيع مراكب الزينة صغيرة الحجم وأبيعها للسائحين ب40 جنيهًا حتى أتمكن من إسكات جوع أولادي، على حد قوله. ويشير قبل الثورة كان لدي سفينتان أقوم بتصنيعهما لصالح ملاك ليبين بلغت تكلفتهما مليون جنيه وجاء أصحابهما واتفقوا معي على أجرة يدي كان مبلغًا معقولاً وعقب اندلاع الثورة لم أجد أحدًا منهم يأتي، مؤكدا أن الثورة تساعد على اندثار المهنة، مرجعا ذلك لأنه بعد الثورة لم يصنع قارب صيد واحد. ويلفت أيضا أن أحد اسباب اندثار المهنة هو توقف ترخيص التصنيع منذ 5 سنوات والذي يجعلنا نقوم بشراء تراخيص السفن القديمة بمبلغ 80 الف جنيه حتى نتمكن من العيش فقط.