- الحلم المستحيل بتجفيف منابع الرذيلة - إلغاء البغاء العلني يقود إلى تزايد بيوت الدعارة السرية - كيف يقدم الأدب المصري شهادته عن عالم العاهرات - يحيى حقي.. مزيج من الإدانة والتعاطف - أكبر المساجد في منفلوط.. شيدته تاجرة الهوى ظريفة! - الضريح الطاهر لأم العواجز.. والوقوف على بوابة التوبة هل يمثل إغلاق المواقع الإباحية انتصارًا نهائيًّا حاسمًا للمبادئ المثالية ومكارم الأخلاق؟ هل يمكن أن تصح مراهنة دعاة الفضيلة على تجفيف منابع الرذيلة بما يمنع الشباب، والكبار أيضًا، من زيارة المواقع التي تحرض عل الفجور وتزينه؟! الاتفاق كامل، أو ينبغي أن يكون كذلك، على المخاطر الجسيمة التي تترتب على شيوع وانتشار مثل هذه المواقع، ولا أحد يفكر في الدفاع عن قنوات جنسية منحرفة، تسهم في إفساد الوجدان وتشويه العقول والقلوب والأرواح، لكن السؤال الجوهري يتعلق بجدوى المعركة القائمة حاليًّا: هل يمكن القضاء الجذري على المواقع الإباحية؟ وهل يقنع المتعاملون معها بالهزيمة فيلتزمون أخلاقيًّا وسلوكيًّا؟ وصولاً إلى السؤال الرئيسي: هل يمكن تخيل وجود الحياة المثالية التي تخلو من الموبقات والانحرافات وشتى مظاهر الفساد؟! قرب نهاية الأربعينيات من القرن العشرين، كانت الدعارة العلنية معترفًا بها في مصر، ثم صدر القرار بإلغاء الدروب والبيوت المرخص لها بممارسة الدعارة، وقوبل القرار بالتهليل والإعجاب والتصفيق والإشادة، ولكن النتيجة العملية لم تكن على النحو الذي توهمه المؤيدون والمتحمسون لقرار الإلغاء؛ ذلك أن الدعارة السرية، غير الخاضعة للإشراف الحكومي والرقابة الطبية، قد انتشرت وتوحشت، ولم يجد مستهلكو السلعة الفاسدة صعوبة في إيجاد البديل الذي يلبي احتياجًا حقيقيًّا، نابعًا من الكبت والحرمان والعجز عن الإشباع الجنسي، دون نظر إلى المعايير الأخلاقية والدينية التي تتشبث بها الأغلبية في المجتمع المتدين المحافظ. المعركة المعاصرة حول إغلاق المواقع الإباحية، والمعركة القديمةالمتعلقة بالقضاء على الدعارة العلنية، تعبران عن طبيعة المجتمع المصري وتفاعلاته وصراعاته، وليس مثل النص الأدبي في قدرته على مواكبة هذه المتغيرات، فهو يعيد إنتاج الواقع ويسلط الضوء الساطع الكاشف على أسراره وخباياه. يحيى حقي ونجيب محفوظ وعبد الرحمن الشرقاوي وفتحي غانم ويوسف إدريس، قامات إبداعية شامخة لا تحتاج إلى تعريف، وفي أدبهم الرفيع رصد وتحليل لظاهرة الدعارة وشخصية العاهرة، ولعل في التواصل مع نصوصهم ما يكشف عن تشابك وتعقد الظاهرة، ذات الأبعاد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدينية والأخلاقية. الدفاع عن الدعارة ليس مطروحًا أو ممكنًا، لكن الفهم والاستيعاب والإحاطة مطلب لا غنى عنه. · الضمير الديني يلعب الضمير الديني دورًا مهمًّا في اتخاذ موقف أقرب إلى التعاطف مع العاهرة، عند قطاع عريض لا يُستهان به من المصريين. في روايته الذاتية البديعة “,”خليها على الله“,”، يقول الكاتب الكبير يحيى حقي: “,”كان لا يزال لتتويب الضالة عند الفلاح مكان في سجل الفضائل، وإن جاء في ذيلها، يضمن له ثوابًا، ولم يكن تطوعه للإنقاذ نتيجة إحساس مرهف بمعنى الانتشال، بل لتسليمه بأن الضالة لم تخطئ عن عمد وإرادة، بل صاغرة لحكم المكتوب على جبينها، فإن كان لكل ذنب قدر، فلكل توبة أوان، وما سقوطها إلا فترة طارئة، إذا زالت اتصلت من جديد على راحة الهداية طرفا حياة مستكينة كأن لم يصبها من قبل قطع“,”. هذا التصور القدري الوديع ينزع الانتقام والكراهية، ويرتقي بالفلاح البسيط عن احتقار العاهرات ونبذهن والولع بالتحامل عليهن وإدانتهن. كل ابن آدم خطاء، وخطيئة العاهرة قدر مكتوب لا تملك منه فرارًا، وللتوبة أوانها المقدر المجهول. الإنسان مسير لا يقوى على معاندة القدر وتحديه، وليست ذنوبه وليدة اختيار عنيد شرير، بقدر ما هي رضوخ لمشيئة وإرادة أقوى. يميل يحيى حقي إلى هذا الاتجاه المتسامح، فهو يرى أن نقطة المومسات في منفلوط بمثابة “,”دكان شغل في مستوى دكان بقالة في قرية، كل بضاعته رخيصة وتُصر في منديل، لا يُباع فيه الغاز إلا ملء مصباح الفتيلة ليلة بليلة؛ لأن الزرق يوم بيوم والرحمن لا ينسى عبيده“,”. نقطة دعارة هادئة لا تسبب إزعاجًا، وفقيرة بائسة مثل البيئة التي تنتمي إليها. قد يكون النفور والاشمئزاز قائمًا، لكن التعاطف والإشفاق لا يغيبان. وعندما ينجح أحد الفلاحين في انتشال واحدة من هؤلاء العاهرات، ويعقد قرانة عليها، يتدخل القدر في قسوة، وتموت العاهرة حديثة التوبة مع منقذها في حادث سيارة، لا يستطيع حتى أن يجزم بالمستقبل الذي أنهاه الموت: “,”حاشاى أن أسال: أكانت ستجتاز الامتحان في المستوى الجديد بصحيفة بيضاء وتشارك صابرة فقر زوجها أم ستعود ريمة –بجحود وضيق صدر وحسرة- إلى عادتها القديمة؟ يكفي أنها لقيت، وهي تائبة، ربها الرحيم الغفور“,”. الرحمن لا ينسى عبيده، والله غفور رحيم، والدين يتسع، مثلما تتسع الدنيا، للمحسن والمسيء، والتاريخ الاجتماعي المصري يكشف عن عديد من الخاطئات التائبات. أكبر المساجد في منفلوط، وأعمها بالناس يوم الجمعة، هو مسجد “,”الست ظريفة“,”. الست ظريفة هذه، فيما يُقال امرأة أمضت أبرك عمرها في تجارة الهوى: “,”ثم استتابت ربها فتاب عليها، فأنفقت كل مالها في طاعته ورضوانه. ومنعني اليأس من أن أسأل أين كانت تجارتها؟ في العاصمة؟ في منفلوط؟ وماذا كان مبلغ جمالها؟ وهل “,”ظريفة“,” هو اسمها حين ولدت أو اسم الشغل؟ وللفضوليين أمثالي أسئلة سخيفة تقلقهم ولا ينسونها إلا إذ جدت لهم أسئلة أسخف منها. فالست ظريفة إذن هي رابعة المنفلوطية“,”! أن يحمل أكبر مساجد منفلوط اسم عاهرة تائبة، بنت المسجد بأموال كسبتها من جسدها، أمر لا يثير الدهشة بقدر ما يثير بعض الأسئلة التي تنم عن الفضول. وتجد الفكاهة متسعًا لها، دون حرج، فتتحول “,”ظريفة المنفلوطية“,” إلى رابعة العدوية العصرية! · أم العواجز المتاجرات بأجسادهن أصحاب مهنة شاقة، وضريح السيدة زينب، في قصة “,”قنديل أم هاشم“,”، يتسع للعاهرات ودعواتهن ونذورهن: “,”لا يخلو يوم الزيارة من بعض المومسات، يفدن لتقديم شمعة للمقام أو للوفاء بنذر، عسى الله أن يتوب عليهن ويمحو ما على الجبين من مقدر مسطور“,”. العمل المشين المرذول “,”مقدر مسطور“,”، والضريح الطاهر يتسع للجميع دون تمييز، والشيخ درديري -خادم الضريح- لا يتعالى عليهن أو يضيق بهن، فهن عنده زائرات مثل غيرهن من النساء: “,”يعرفهن واحدة واحدة، ويسأل عن الغائبات. يأخذ من هذه شمعتها، ويوسع لأخرى طريق صندوق النذور، يتبدل رضاه فجأة فيزجرهن ويدفعهن دفعًا إلى الخارج“,”. لا يختلف تحوله من الرضا إلى السخط مع غيرهن من النساء، ولا تصدر عن خادم الضريح كلمة أو إشارة تنم عن احتقاره أو رفضه، فكيف له أن يصد قاصدات أم العواجز والمتضرعات إليها؟! نعيمة واحدة منهن، عاهرة تسعى إلى التوبة بإخلاص، وتخرج كلماتها محملة ببلاغة الصدق النابع من الأعماق: “,”يا أم هاشم! يا ستارة على الولايا. لا تغضي عينيك ولا تشيحي بوجهك. تُمد إليك يد مسترحمة فخُذيها. إن الله طهرك وصانك وأنزلك الروضة، وإن قلبك لرءوف. إذا لم يقصدك المرضى والمهزومون والمحطمون فمن غيرك يقصدون؟ إذا نُسينا فاذكري أنت! متى يُمحى المقدر عليَّ؟ أيرضيك أن جسدي ليس مني فما أشعر بألم وهو يُنهش نهشًا؟ ها هي روحي على عتباتك تتلوى وتتمرغ مصروعة تريد أن تفيق. منذ غادرني رضا الله وأنا كالنائم يركبه الكابوس، يقبض في يد واحدة على الموت والحياة! رضيت لحكمه وأسلمت نفسي، ولن أضيع وأنت هنا معنا. أفيطول الأمد، أم أن رحمة الله قريب؟ نذرت لك يوم يتوب المولى عليَّ أن أزين مقامك الطاهر بالشموع، خمسين شمعة، يا أم هاشم يا أخت الحسين!“,”. أليس أن مثل هذا الدعاء، بمفرداته الحارة الصادقة، يمكن صدوره عن امرأة شعبية عادية، تعاني من أزمة أخرى، وتتوق إلى مساعدة فعالة من زهرة آل البيت، وتحلم بالإغاثة والنجدة؟! في دعاء العاهرة الصادقة ما يعبر عن انتمائها الأصيل إلى مفهوم الدين الشعبي الذي يعتنقه الملايين من المصريين، وأحد أهم ركائز هذا الدين هو التعلق بالأولياء وساكني الأضرحة، فهم الملاذ لمن لا ملاذ له، والملجأ الحصين الآمن لكل من تضيق بهم الدنيا وتتجهم لهم. إلحاح مبرر مفهوم على أن المهنة الكابوسية المرهقة “,”قدر مكتوب“,”، وأن الخلاص منها قدر لم يئن أوانه بعد، وأن باب التوبة أمل يلوح، ولا بد من مساعدة للولوج إلى عالم النقاء والبراءة. قارئ الدعاء قد لا يتخيل أن صاحبته عاهرة موصومة بالفساد، ويتضح الموقف الإيجابي المتعاطف ليحيى حقي في تعليقه على قبلة نعيمة لسور المقام: “,”ليست هذه القبلة من تجارتها، بل من قلبها. ومن ذا الذي يجزم بأن أم هاشم لم تسع إلى السور قد هيأت شفتيها من ورائه لتبادلها قبلة بقبلة؟“,”. ينم تساؤل حقي عن بوادر الغفران والتوبة القريبة، ويكشف تطور الأحداث في القصة عن اتساع الحياة لدخول نعيمة في عالم جديد، فقد أفضى الصبر إلى الخلاص: “,”لقد صبرت وآمنت، فتاب الله عليها، وجاءت توفي بنذرها بعد سبع سنوات. ولم تقنط، ولم تثر، ولم تفقد الأمل في كرم الله“,”. نعيمة نموذج للتحقق في العاهرات اللاتي يقدمهن يحيى حقي في عالمه المسكون بالتسامح، ووجودها في القصة يتجاوز المستوى الواقعي المباشر إلى الدلالة الرمزية الموازية لرحلة الدكتور إسماعيل، المتمرد على قيم الشرق وثقافته الموروثة. لقد ظهرت في القصة ثلاث مرات: المرة الأولى أثناء مراهقة إسماعيل، وكانت مستسلمة لمصيرها مثلما هو مستسلم لحياته. المرة الثانية ليلة سفره إلى أوروبا، تنذر لأم العواجز إذا من الله عليها بالتوبة، وكان هو على وشك أن ينذر حياته كلها للغرب. المرة الثالثة بعد أن تابت، كأنها تهيئ المسرح لتوبته واستقراره! · الاحتياج والضرورة يقدم عالم نجيب محفوظ شهادة متكاملة عن كافة جوانب الحياة المصرية، الإيجابي منها والسلبي، وفي هذا الإطار يبدو الحديث عن رؤية الكاتب الكبير للدعارة والعاهرات ضروريًّا، دون نظر إلى الموقف من الظاهرة التي تتعرض للإدانة من المنظورين الديني والأخلاقي. المهنة العريقة العتيقة قديمة قدم التاريخ الإنساني، وهي مثل كل المهن الأخرى تقوم بوظيفة اجتماعية لا يمكن إنكارها، ويحكمها بناء مؤسسي متعدد الأطراف، وتخضع لمنظومة صارمة من القواعد والأعراف. قد تجمع الأغلبية على النفور والاشمئزاز والتعالي، لكن أحدًا لا يملك أن ينكر وجود الظاهرة وتأثيرها، بل إننا نجد في أدب نجيب محفوظ، كما هو الحال في الواقع، من يقدم دفاعًا وتبريرًا، ويبدو أقرب إلى التعاطف والتفهم، ويعقد المقارنات الموضوعية الجادة، التي تحقق التوازن وتبتعد عن إطلاق الأحكام القاطعة المسرفة في المثالية. في “,”ثرثرة فوق النيل“,”، يذهب أنيس زكي إلى أن جميع بنات الليل جادات، ويقول للصحيفة سمارة بهجت: “,”لا يعرفن العبث، يعملن حتى الهزيع الأخير من الليل، لا للهو أو لذة، لكن لهدف تقدمي وهو أن يعشن حياة أفضل!“,”. أنيس مثقف بقدر ما هو مدمن لا يفيق، ومقولته ليست وليدة أزمة عابرة أو انفعال طارئ، كما أنها لا تعبر عن الخلط بين الجد والهزل. جدية العاهرات ليست مديحًا مطلقًا يعلي من شأنهن، فالأمر أقرب إلى التوصيف المحايد الذي يعكس ما يعايشه ويمارسه. ليس أدل على ذلك من دفاع مماثل يقدمه العجوز محتشمي زايد، المتصوف الطامح إلى الولاية في “,”يوم قتل الزعيم“,”، فهو يعود إلى ذكريات شبابه، منتصرًا للواتي عرفهن من المحسوبات على عالم الدعارة: “,”حيث تتجلى الحكمة والصدق فوق جباه العاهرات والقوادات، يقلن لنا بكل تواضع ألسنا أرحم بكم من حكامكمم العظام؟ نحن نبذل أنفسنا في سبيل الترفيه عنكم وهم يضحون بكم بغية الترفيه عن ذواتهم، فإلى جنة الخلد يا زمردة ويا لهلوبة ويا أم طاقية، ويا جميع المنحرفين والمنحرفات ممن لم نقر بفضلهن حتى ورد الزمان علينا بأبطال النحس والفاقة والهزائم. سقيًا للياليكم المنزوية في أعكاف الدخان والنشوة، المنطوية في فنون التلميع والتسمين، المبذولة للدهن والتمشيط، كل جهد وتخطيط من أجل الآخرين، والرضا بعد ذلك باللقمة والازدراء وشماتة الشامتين“,”. لا يخلو منطق العجوز الحكيم من وجاهة وتماسك، فهن راضيات بالازدراء والاحتقار، متفانيات في عملهن الذي يرفه عن القائمين بالسب والشتم والتوبيخ، أما عن مقارنتهن بأبطال الهزائم فيقود بالضرورة إلى انتصارهن وتفوقهن! المسألة هنا لا تعني تجميل المهنة أو تمجيدها، لكن تشير فحسب إلى أهمية التقييم الموضوعي الذي يرصد اللوحة في مجملها. “,”وللحديث بقية“,”