الربيع.. تلك "الفترة الرطبة" بين فصلين قاسيين الشتاء والصيف، نستقبله لنسترجع معه أجمل الذكريات بألوان الأزهار التي تملك الكون بأكمله، وتهل علينا البهجة والسعادة من خلال الغوص في بساتينه، وعلى مر الزمان غنت الأجيال أجمال الأغنيات للربيع، ولم يستطع الفن في ثوبه الجديد اختلاس مكانة الأغنيات القديمة مهما أبدع، فليست مجرد كلمات أو ألحان فقط، بل حروف تحمل معها تاريخ وذكريات تُغني عما هو جديد؛ فتغنى به كبار الشعراء والمطربين منذ "أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكًا" للبحتري، وحتى "آدي الربيع عاد من تاني" و"البدر هلت أنواره" لفريد الأطرش؛ فعندما وصف البحترى الربيع قال: "أَتاكَ الرَبيعُ الطَلقُ يَختالُ ضاحِكًا مِنَ الحُسنِ حَتّى كادَ أَن يَتَكَلَّما وَقَد نَبَّهَ النَيروزُ في غَلَسِ الدُجى أَوائِلَ وَردٍ كُنَّ بِالأَمسِ نُوَّما يُفَتِّقُها بَردُ النَدى فَكَأَنَّهُ يَبُثُّ حَديثًا كانَ أَمسِ مُكَتَّما وَمِن شَجَرٍ رَدَّ الرَبيعُ لِباسُهُ عَلَيهِ كَما نَشَّرتَ وَشيًا مُنَمنَما أَحَلَّ فَأَبدى لِلعُيونِ بَشاشَةً وَكانَ قَذىً لِلعَينِ إِذ كانَ مُحرَما وَرَقَّ نَسيمُ الريحِ حَتّى حَسِبتَهُ يَجيءُ بِأَنفاسِ الأَحِبَّةِ نُعَّما. وجاءت أم كلثوم لتُغني أغنية الربيع "آدى الربيع عاد من تأني والبدر هلت أنواره؛ وفين حبيبي اللي رماني من جنه الحب لناره؛ أيام رضاه يازمانى هاتها وخد عمرى اللي رعيته؛ رماني فاتني وشغل فكرى؛ كان النسيم غنوه النيل بغنيها وميته الحلوة تفضل تعد فيها؛ وموجه الهادي كان عوده؛ ونور البدر وأوتاره يلاغى الورد وخدوده؛ يناجى الليل وأسراره وأنغامه تسكرنا أنا وهو مفيش غيرنا؛ لمين بتضحك ياصيف لياليك وأيامك"، وغنّى فريد الأطرش الكلمات نفسها. ومن الشعراء الذي تحولت أبياتهم الشعرية إلى قصائد مغناه الشاعر "مأمون الشناوي"، الذي حفلت قصائده الشعرية بجمال الربيع الذي ينشر كل الأنوار على مشاهد الطبيعة؛ كذلك من الأغاني الشهيرة التي وصفت الربيع وصارت أيقونة لا يمر حضوره وإلا ويتغنى بها الجميع أغنية "الدينا ربيع" والتي قام بكتابتها الشاعر صلاح جاهين وغنتها السندريلا سعاد حسني "الدنيا ربيع والجو بديع.. قفلي على كل المواضيع.. قفل قفل قفل.. مافيناش كاني ومافيهاش ماني كاني ماني إيه الدنيا ربيع الدنيا ربيع.. الشجر الناشف بقا ورور.. والطير بقا لعبى ومتهور.. كده وإحنا حنفرفش امتى اومال.. دلوقتى ولا في سبتمبر". وأيضًا كان لأمير الشعراء أحمد شوقى تحية خاصة بفصل الربيع " مرحبًا بالربيع في ريعانِهْ وبأَنوارِه وطِيبِ زَمانِهْ رَفَّت الأَرضُ في مواكِب آذارَ، وشبَّ الزمانُ في مِهْرَجانِه نزل السهلَ طاحكَ البِشْر يمشي فيه مَشيَ الأمير في بُستانه عاد حَلْيًا بِرَاحَتيْهِ وَوَشْيًا طولُ أَنهارِهِ وعَرْضُ جنانه لف في طيْلَسانِه طُرَرَ الأر ضِ، فطاب الأَديمُ من طيلسانه ساحرٌ فتنة العيونِ مُبينٌ فضل الماء في الربا بجمانه عبقريُّ الخيالِ، زاد على الطيْ ف، وأَرْبَى عليه في أَلوانه في مأتمٍ لم تخلُ فُيَهْنِيكَ ما حرَّمتْ حين تنام". وقال أيضًا "آذار أقبل قم بنا يا صاح حي الربيع حقيقة الأرواح صفو أتيح فخذ لنفسك قسطها فالوصف ليس على المدى بمتاح ملك النبات فكل أرض داره تلقاه بالأعراس والأفراح". وقال مصطفى صادق الرافعي "إذا احتدم الصيف، جُعلتَ أنت أيها البحر للزمن فصلًا جديدًا يسمى "الربيع المائي"، وتنتقل إلى أيامك أرواح الحدائق، فتنبت في الزمن بعض الساعات الشهية كأنها الثمر الحلو الناضج على شجره، ويوحي لونك الأزرق إلى النفوس ما كان يوحيه لون الربيع الأخضر، إلا أنه أرق وألطف. ويرى الشعراء في ساحلك مثل ما يرون في أرض الربيع، أنوثة طاهرة، غير أنها تلد المعاني لا النبات. ويحس العشاق عندي ما يحسونه في الربيع أن الهواء يتأوَّه. في الربيع، يتحرك في الدم البشري سر هذه الأرض؛ وعند "الربيع المائي" يتحرك في الدم سر هذه السحب". وقال ابن المارداني: "أما ترى الأرض قد أعطتك عذرتها.. مخضرةً واكتسى بالنور عاريها فللسماء بكاءٌ في حدائقها.. وللرياض ابتسامٌ في نواحيها". ويقول الصنوبري: "تبارك الله ما أحلا الربيع فلا.. يغرر مقايسه بالصيف مغرور من شم طيب جنيات الربيع يقل.. لا المسك مسكٌ ولا الكافور كافور وقول أبي الفتح بن العميد: أسعد بنيروزٍ أتاك مبشرًا.. بسعادة وزيارةٍ ودوام واشرب فقد حل الربيع نقابه". وسبق الشاعر "أبو تمام" أقرانه من الشعراء في وصف الربيع وهو يقول في قصائده "رقت حواشي الدهر فهي تمرمر وغدا الثرى في حليه يتكسر نزلت مقدمة المصيفة حميدة ويد الشتاء جديدة لا تكفر مطر يذوب الصحو منه وبعده صحو يكاد من الغضارة يمطر من كل زاهرة ترقرق بالندى فكأنها عين عليه تحدر من فاقع غض النبات كأنه در يشقق قبل ثم يزعفر أو ساطع في حمرة فكأن ما". وعندما نتطرق للربيع فلا يمكن أن ننسى شاعر لبنان "جبران خليل جبران " الذي غرق قلمه في وصف الطبيعة التي جعلت من لبنان صورة فنية مكتملة الأركان وخاصة عند ذوبان الثلوج عن جبالها؛ فيكتب عن الاختلاف بين الفصول في قصيدته "الفصول الأربعة"، وهو يخص كل فصل بوصف دقيق عن مزاياه ويكتب عن الربيع "هلمي يا محبوبتي نمش بين الطلول.. فقد ذابت الثلوج وهبّت الحياة من مراقدها وتمايلت في الأودية والمنحدرات.. سيري معي لنتتبّع آثار أقدام الربيع في الحقل البعيد.. تعالي لنصعد إلى أعالي الربى ونتأمل تموجات اخضرار السهول حولها.. هاقد نشر فجر الربيع ثوبا طواه ليل الشتاء فاكتست به أشجار الخوخ والتفاح فظهرت كالعرائس في ليلة القدر". والربيع لم يترك أجدادنا الفراعنة دون أن يترك بصمة الغزل عليهم، فكان الشاعر القديم يرى محبوبته بوضوح، وهو ما جعل برديات المصريين تزخر بالحب مع موسمه، ففي برديه "شستر بيتي" ينعكس الربيع على هذه القصائد، وتختفي معه المشاهد الدرامية الحزينة، لتظهر المشاهد الحميمة على بردية الشاعر وهو يقول"أحضر توًا يا سيدي.. يا من ذهبت بعيدًا أحضر لكي تفعل ما كنت تحبه تحت الأشجار لقد أخذت قلبي بعيدًا عني آلاف الأميال معاك أنت فقط أرغب في فعل أحب إذا كنت قد ذهبت إلى بلد الخلود فسوف أصحبك فأنا أخشي أن يقتلني الشيطان ست لقد أتيت هنا من أجل حبي لك فلتحرر جسدي من حبك". ولم يقتصر الحديث عن الربيع على العرب فقط بل تكلم عنه شعراء أجانب ومنهم بابلو نيرودا الذي قال "يمكنك أن تقطع كلّ الأزهار ولكنك لا تستطيع أن تمنع الربيع من القدوم"، و"تستطيعون قطف الزهور لكنكم أبدًا لا تستطيعون وقف زحف الربيع"؛ كما قال راشيل كارسون "كم أخاف أن يأتي الربيع المقبل صامتًا بلا طيور تغرد في الغابة، وتعج الصحراء بالجراد ويتشوه منظر النجوم والقمر".