حين كنت طالبة ما زلت بالمعهد العالى للسينما، كنا نحج إلى «مركز الفيلم التجريبى»، حيث السيد المهيب شادى عبدالسلام. يطلق قفشاته سخرية من السينما المصرية السائدة ومنا نحن تلاميذ السينما المحبين له ولفلاحه الفصيح ولعمله الطويل الأوحد «يوم أن تحصى السنين» أو «المومياء». ذات مرة كانت نبيهة لطفى حاضرة وظل يتبادل معها القفشات وكانت قد ساعدت في إخراج فيلم في السينما المصرية وشاركت رفيق الصبان في كتابته. نبيهة وشادى بمحبة وصداقة اندمجا في الدعابة غير شاعرين بنا. صورة نبيهة لطفى مع شادى ظلت في ذاكرتى ترسم ملمحا أساسيا لها، نبيهة لطفى التي لا تعمل إلا في جو من الحميمية والمحبة، حين اشتد التعب بشادى ودخل مراحل مرضه الأخير كانت تلازمه كفرد من العائلة، تصحبها نادية لطفى التي قدمها شادى في دور قصير مؤثر في «المومياء». حلمت نبيهة دوما بتقديم فيلم عن شادى وظل حلمها يراودها وننتظره نحن أن يتحقق. ولسنوات ثلاث خططت وصورت وجمعت مواد، وتحدثت عن الفيلم أكثر مما عملت عليه. يتعاقب على المركز القومى للسينما الرؤساء وتتبدل الظروف، تسافر نبيهة وتنشغل بأمور أخرى، والأهم أن صلاح مرعى رفيق المشوار قد رحل أيضًا، وكان وجوده في فيلم نبيهة وبجوارها عاملًا هامًا لإتمام الفيلم، تتعاون نبيهة لطفى مع رحمة منتصر، واحدة من فريق شادى، في مونتاج الفيلم وتصور مع أنسى أبو سيف توأم صلاح مرعى وزميله في تنفيذ العمل الكبير «أخناتون» ذلك العمل المجهض، والذي لم يكتمل لشادى عبدالسلام. كتب السيناريو تفصيلا ورسم الاسكتشات التحضيرية بكل تفاصيلها. في فيلم نبيهة لطفى يحكى لنا أنسى أبو سيف تفصيلا عن الفيلم وقصة إنتاجه بادئا باستعراض أوراق تآكلت وهى تنتظر فرصة التنفيذ، يحفظ أنسى السيناريو عن ظهر قلب، يشرح ونشاهد خلفه حوائط رسمت وتيجان نحتت وتفاصيل للفيلم الذي يكمل فيه شادى عبدالسلام رؤيته عن مصر القديمة وعظمتها. يحكى فنان المناظر أنسى أبو سيف بأسى وينتهى إلى هزيمة أخناتون وديانته الجديدة وتولى القائد الحربى حور محب حكم البلاد بدعم من كهنة آمون. ولا ينهى شادى فيلمه قبل أن يركز على فلاح يزرع أرضه وتتحرك الكاميرا ليملأ قرص الشمس، آتون رب إخناتون شاشة النهاية. يفتح باب وتظهر وراءه نماذج منفذة لتخطيطات شادى عبدالسلام لفيلم «إخناتون» يشرح مهندس الديكور محمود مبروك عن الإجادة التامة لشادى وعن رؤيته التي لا يملك أحد تغييرها، تصوير محسن أحمد للمشهد وسيطرة اللون الذهبى على الصورة والكاميرا تستعرض ما تم تنفيذه، صورة مبهرة تنقل إلينا الأسى لعدم تنفيذ عمل شادى الكبير «إخناتون» وينتهى كلام مبروك أنه يجب أن تعرض هذه النماذج في معرض دائم، وأنه لا أحد يمكنه أن ينفذ رؤية شادى مهما كان السيناريو الذي تركه مفصلا ومهما كانت درجة اقتراب أي فرد منه، إنه عالم شادى عبدالسلام غير المكتمل والذي ينبغى أن يبقى هكذا بغير اكتمال لنظل نبحث عن أسباب عدم إنتاج الفيلم في عصر الرئيس المؤمن أنور السادات ومن تلاه الرئيس المخلوع حسنى مبارك، ونتذكر فقط أنه في عهد جمال عبدالناصر وثروت عكاشة أمكن لشادى أن يحقق فيلمه «يوم أن تحصى السنين» الذي ينتقد فيه عيشنا على نهب تراث الأجداد عبر السؤال «هل هذا عيشنا!» الذي يستنكر فيه الوريث طريقة عيش أبيه وأعمامه. تنتصر نبيهة لرأى محمود مبروك وتصلنا رسالتها واضحة بلا لبس، كفاكم عبثا بتراث شادى واتركوه هكذا بغير اكتمال، علنا نسعى لتغيير المناخ الذي يحيط بالمبدعين الحقيقين ويصيبهم بحسرة تسلمهم للاكتئاب والمرض ثم الموت قبل أن يحققوا أحلامهم. بمجرد ظهور أنسى أبو سيف ومن بعده محمود مبروك أشعر أن هذا هو شادى عبدالسلام حيا خالدا ما زال يعيش بيننا بعمله وإبداعه. بينما مضى الجزء الأول من الفيلم معبرا عن شادى عبدالسلام الذي مات، من خلال ما ترويه أخته مهيبة التي لم تأخذ من الأخ سوى إيقاعه الهادئ، تحكى وهى جالسة على كرسى ذكرياتها مع الأخ وعلاقة والده ووالدته به، تحكى عن الراحل شادى عبدالسلام الذي مات. عالم شادى عبدالسلام العمل الأخير لنبيهة لطفى يعكس انقساما حادا بين شادى عبدالسلام الميت وعلينا أن نأسى له، وشادى عبدالسلام الحى الخالد كما عكسه لنا حديث أنسى أبو سيف، ومحمود مبروك اللذان نفذا تصميمات شادى باحترام تام وبإدراك أنها رؤيته المتفردة التي لا يضاهيه فيها أحد. عرض الفيلم الثلاثاء 31 مارس 2015 عرضًا أول بقاعة ثروت عكاشة في حضور مخرجته وصاحبة الرؤية له نبيهة لطفى. من النسخة الورقية