في غمار تحرك عربي ناجز لحماية الهوية والقيم العربية في اليمن تبدأ اليوم في مدينة شرم الشيخ القمة العربية التي تتجه لكتابة صفحات مضيئة في ثقافة الفعل والانجاز وتطابق الأقوال مع الأفعال . وفيما جاء القرار العربي بالتحرك لإعادة الشرعية في اليمن مؤكدا في الوقت ذاته على ضرورة حماية الهوية العربية لهذا البلد العربي بكل مايعنيه ذلك من ابعاد ثقافية فان هذا القرار لابد وان يحظى بكل التقدير والدعم من المثقفين العرب الذين ابدوا في الآونة الأخيرة قلقا مشروعا ومبررا حيال مخاطر تتهدد الهوية العربية لعدة اقطار عربية جراء ممارسات جماعات طائفية وانقلابية تنفذ اجندات قوى اقليمية غير عربية. وكانت رئاسة الجمهورية قد أوضحت في بيان أن مشاركة مصر في هذه العملية جاءت اتساقا مع الموقف الذي اتخذته دول مجلس التعاون الخليجي بدعم الشرعية التي توافق عليها الشعب اليمني وانطلاقا من مقتضيات مسئولية مصر تجاه الحفاظ على الأمن القومي العربي بمنطقة الخليج والبحر الأحمر واستنادا الى اتفاقية الدفاع العربي المشترك وميثاق جامعة الدول العربية. واضاف البيان أنه كان حتميا على مصر تحمل مسئوليتها وأن تلبي نداء الشعب اليمني من أجل عودة استقراره والحفاظ على هويته العربية. وفي استجابة سريعة لطلب الرئيس الشرعي لليمن عبد ربه منصور هادي بدأت تسع دول عربية امس الأول "الخميس" عملية عسكرية موسعة تحت اسم "عاصفة الحزم" لانهاء الانقلاب الحوثي على الشرعية الرئاسية والبرلمانية في هذا البلد العربي. ولا ريب أن القمة العربية في شرم الشيخ هي قمة اللحظة الخطرة وتستدعي بالفعل جهدا برؤى مبدعة للاجابة على اسئلة تتعلق بوجود الأمة وطبيعة النظام العربي الجديد واولويات التهديدات في وقت تجد فيه الأمة نفسها تحت النار بينما تتشكل فيه ملامح نظام عالمي جديد. والقرار المنتظر في قمة شرم الشيخ بشأن القوة الدفاعية العربية المشتركة لابد أن يسهم إيجابا في حماية الهوية العربية بعد أن وجد العرب أنفسهم في وضع إقليمي ضاغط ومستهدفين بمشاريع لقوى إقليمية غير عربية بدت وكأنها تسعى لإعادة إنتاج زمن مضى منذ قرون وقرون عندما كانت القبائل العربية في زمن الجاهلية موزعة بين كسرى الفرس وهرقل الروم!. ومن هنا رأى معلقون مثل الدكتور محمد السعيد إدريس أن أبرز ملفات النظام العربي كانت تدار من جانب القوى الإقليمية الثلاث المتصارعة: إيران وتركيا وإسرائيل وأن أغلب صراعات هذه القوى بمشاريعها تأتي على حساب المصالح العربية والأمن القومي العربي. وفيما تصاعدت دعوات في الآونة الأخيرة لضرورة التوصل إلى رؤى وتفاهمات عربية تعيد للنظام العربي تماسكه فإن معلقين ومحللين من بينهم محمد السعيد إدريس أكدوا على أن الاقتراح المصري بتأسيس قوة عسكرية عربية مشتركة للدفاع عن الأمن القومي العربي ومحاربة الإرهاب يمكن أن يكون مدخلا مهما لتحقيق اختراق عربي لطوق الأزمات الذي يتهدد العرب. وكان وزراء الخارجية العرب قد وافقوا على اقتراح مصر بتشكيل قوة عربية مشتركة في قرار يرفع الى القمة العربية اليوم "السبت" في شرم الشيخ وهو القرار الذي يستند على معاهدة الدفاع العربي المشترك التي وقعت منذ عام 1950 والمادة 51 من ميثاق الأممالمتحدة حسبما اوضح الدكتور نبيل العربي الأمين العام لجامعة الدول العربية. وأشار العربي إلى أن ما يشهده اليمن يفرض وبإلحاح النظر فيما يمكن اتخاذه من إجراءات وتدابير جماعية لصيانة الأمن القومي العربي ومواجهة التهديدات الجسيمة التي تتعرض لها الأمة بما في ذلك مكافحة التنظيمات الإرهابية التي تهدد أمنها. والتحالف الحقيقي الذي يحتاجه العرب-على حد قول الدكتور محمد السعيد إدريس-هو "أن يتحالفوا مع أنفسهم وأن يحاربوا الإرهاب" فيما كان بعض أبرز المثقفين العرب مثل الكاتب والمفكر البحريني الدكتور محمد جابر الأنصاري قد التفتوا لأهمية الحفاظ على اللغة العربية من أجل حماية الهوية داعين ودعوا من قبل لقرارات ملزمة على مستوى قمم عربية بشأن دعم اللغة العربية. وقال الدكتور محمد جابر الأنصاري، إن الخطر الماثل يتمثل في أن جيلا عربيا جديدا لا يحسن استخدام لغته الأم لافتا إلى أنه إذا نظرنا إلى حدود الوطن العربي الكبير "نجد أن الحدود اللغوية هي التي تحدده في غياب أي اعتبار آخر" وهذه الحدود اللغوية هي التي تجيب على سبب عدم انضمام قوى إقليمية مثل إيران وتركيا لهذا الوطن العربي الكبير. وفي أواخر عام 2010 وفي سياق طرح له حول قمة ثقافية عربية أعاد المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري للأذهان أن "الفارسية الحديثة بلورها الفردوسي قرونا بعد الفتح الإسلامي لفارس ولا يذكر التاريخ أن العرب وقفوا ضدها". أما الأكاديمي والشاعر اليمني الدكتور عبد العزيز المقالح وهو رئيس المجمع العلمي اللغوي في اليمن فقد رأى أنه إذا كان هناك أكثر من أسلوب في الحفاظ على الهوية القومية وحماية مكوناتها فإن الثقافة هي الجزء الأقوى في تحدي المخاطر "لأنها الأقدر على التسرب في ثنايا النفس الى ان تصبح جزءا لايتجزأ من مخزونها المعرفي والروحي والأدبي". ولعل حزمة قرارات قمة شرم الشيخ ككل تفضي لمزيد من تحديد الهوية العربية وتأصيلها في عصر العولمة ومهددات السيادة الوطنية للدول العربية وبما يعكس ثقافة استراتيجية عربية قادرة على التعامل مع المتغيرات في الإقليم والعالم. ويقول الدكتور عبد العزيز المقالح إن الشعوب التي دفعت ثمنا باهظا من استقلالها وسيادتها وحريتها تحت شعار العولمة الثقافية هي في الأساس تلك التي قبلت بأن تفرط في هويتها الثقافية معتبرا انه "اذا انهار الجدار الثقافي فلا شييء يمنع من تفتيت الشعوب وتحويلها الى بؤر للتناحر والخصومات". ويدعو المقالح "إلى توحيد الجهود واستنفار الطاقات الفكرية والابداعية لاحياء فكرة وحدة ثقافية عربية تقوم على التنوع والتعدد". غير انه لاجدال على ان القرار العربي بالتحرك لاعادة الشرعية الى اليمن يعني ايضا اعلاء "ثقافة المبادأة والقدرة على الفعل والانجاز" بقدر ماجاء بشيرا "بنوبة صحيان قومي" و"عقل استراتيجي عربي جديد" بعد "المرحلة الرخوة" و"حالة السيولة" و"مظاهر الفوضى" التي كادت تهدد وجود الأمة العربية وتعصف بمقدرات دولها وحقوق شعوبها في الحياة. فاذا كنا كعرب نعرف الخطر فان المعرفة لن تكون قوة الا بأفعال تستند على هذه المعرفة وهذه القمة لابد وان تكون قمة الأفعال ولحظة لمواجهة الحقيقة بمخاطرها الوجودية! ومن هنا لا يمكن لعروبي أن يعترض على التحرك السعودي الخليجي بدعم مصري دفاعا عن الشرعية اليمنية وحماية لأمن الخليج اوالقصف الجوي لمواقع ميليشاوية طائفية في اليمن بعد ان وصلت ميليشيات الحوثيين الموالين للمشروع الايراني الى ابواب عدن وباتت صنعاء في قبضتها والطريق مفتوح لباب المندب بكل اهميته الاستراتيجية المعروفة للقاصي والداني. وللحقيقة فإن التحرك العربي الأخير في اليمن وضع حدا لمخاوف لطالما رددها مثقفون مصريون وعرب من مرحلة رخوة في السنوات الأخيرة كانت تعيد للأذهان حقبة ممالك الأندلس قبل سقوطها عندما كانت تتحالف مع أعداء العروبة والسلام من أجل مصالح ذاتية انانية وقصيرة النظر حتى ضاع الأندلس كله!. ويبدو واضحا في ضوء عملية "عاصفة الحزم" لإنقاذ شعب اليمن أن هناك حالة ارتياح بين المثقفين العرب الذين حذروا من قبل من مخاطر التشرذم المحزن للعرب وتفرقهم بين قوى اقليمية غير عربية راحت تتمدد في الفضاء العربي ساعية لفرض اجنداتها ومشاريعها على الأمة العربية. لكن مصر "الجديدة" بعد ثورة 30 يونيو تدعو "لاقامة نظام عربي اقليمي جديد باعتباره ضرورة استراتيجية"فيما لفت وزير الخارجية سامح شكري لأهمية الا يكون تجديد النظام الاقليمي العربي قائما على اساس اي من المحاور التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط في العقود الأخيرة. وتأتي هذه الدعوة المصرية لإقامة نظام عربي جديد في وقت تتردد فيه التساؤلات حول اتجاهات النظام العالمي ومااذا كان هناك نظام عالمي جديد تتشكل ملامحه بالفعل على نحو ماقال المفكر الاستراتيجي الأمريكي هنري كيسنجر في كتابه الجديد "النظام العالمي" والذي جاء معبرا عن نظرة رجل جمع مابين نظريات الاستراتيجية وخبرات العمل كوزير للخارجية ومستشار للأمن القومي. وهكذا فالمشهد العربي الحالي كجزء من المشهد العالمي الراهن يطرح اسئلة مختلفة عن اسئلة الماضي كما يتطلب فهما ثقافيا استراتيجيا عميقا لمحدداته ومتغيراته وسرعة التطورات فيه احيانا وعمق التدخلات الخارجية في هذه التطورات سواء من قوى اقليمية غير عربية او قوى عالمية. وأوضح سامح شكري أن أهداف هذا النظام العربي الإقليمي الجديد مواجهة تحديات العصر وتحقيق التنمية والإعداد لتمكين الجيل الجديد فيما يأتي هذا الطرح معبرا عن حالة حراك حميد على مستوى الفكر والعمل للسياسة الخارجية المصرية واستعادة الدبلوماسية المصرية العريقة لمفهوم المبادرة بما يخدم مصر وأمتها العربية معا. هذه نظرة مباشرة لقلب مشكلة تشكل خطرا حاليا وتهديدا وجوديا وهي بعيدة عن الحديث التقليدي عن الحلول الطويلة الأمد لكل قضايانا الهامة كعرب وبما قد ينطوي على نوع من الكسل او التهيب من ثمن المواجهة الحاسمة مع اي قضية من تلك القضايا المزمنة ناهيك عن قضايا متفجرة افرزها الوضع الراهن. لبول كروجمان عالم الاقتصاد الأمريكي والحاصل على جائزة نوبل طروحات عميقة حول هذه المسألة وهو يرى ان الاحالة للأجال الطويلة سواء في القضايا الاقتصادية او السياسية كثيرا ماتكون من قبيل التجنب والمراوغة والهروب من المواجهة الفعلية للمشكلات. ولأن قمة شرم الشيخ تعقد في لحظة خطر حقيقي فهي لابد وان تواجه هذا الخطر بقرارات ناجزة نافذة ينتظرها كل عربي مخلص من المحيط الى الخليج بشأن ملفات لا تحتمل التأجيل مثل موضوع القوة الدفاعية العربية المشتركة كتعبير عن تحالف عربي لمحاربة الارهاب وحماية الأمن القومي العربي. إنها ملفات عاجلة تجيب على السؤال الكبير: من الذي سيقوم بالدور الأكثر أهمية في صياغة "منظومة القيم" داخل المنطقة العربية؟!.. هل هم العرب ام قوى الجوار الإقليمي؟!!. فكل من ينتمي صدقا وحقا للأمة العربية لا يمكن أن يقبل أن علينا قوى الجوار منظومة قيم اقليمية تكون "قوام الشرعية الإقليمية الجديدة" وكل عربي صادق العروبة ينظر الآن بالأمل نحو شرم الشيخ حيث القمة العربية التي تعد حقا واحدة من أخطر القمم في تاريخ العرب. فهل سيقول التاريخ إن قمة عربية بدأت يوم السبت الموافق 28 مارس 2015 في شرم الشيخ أفرزت نظاما عربيا جديدا لأمة رفضت الاستسلام "لأصحاب الرايات السوداء والمجازر الشنعاء والأجندات الإقليمية لقوى الجوار والمشاريع اللاعربية والقيم المناوئة للعروبة"؟!.. إن هذه القمة لها أن تكتب صفحات مضيئة دفاعا عن الهوية والقيم العربية.