في زيارة قصيرة لمهرجان "الأقصر للسينما الأفريقية"، شاركت في ورشة عمل وندوة حول النقد السينمائي في إفريقيا والمشاكل التي تواجه المهنة والعاملين بها. المناقشات التي امتدت لأكثر من ثلاث ساعات كانت امتدادًا لهموم "نقدية" طرحت بعضها في العددين السابقين، مضافًا إليها هموم نقاد آخرين، مصريين وأفارقة، من المشاركين في الندوة. أحد النقاد في ندوة سابقة خاصة بمهرجان "فيسباكو" الذي يعقد في بوركينا فاسو سنويا منذ عام 1969، قال في معرض حديثه عن أهمية المهرجان بالنسبة إلى نقاد أفريقيا أن الفيلم الذي لا يكتب عنه النقاد سرعان ما يجرفه النسيان وكأنه لم يوجد. الجملة استوقفتني كثيرًا وأنا أقوم بالتحضير لندوة اليوم التالي. هل صحيح أن الأفلام التي لا يهتم بها النقاد تصبح نسيًا منسيًا، أم أنها تصورات بعض النقاد المغرورين بمهنتهم؟ وإذا كان ذلك صحيحا، فلماذا يعامل النقد بهذا "الاحتقار" والنفور من قبل السينمائيين ووسائل الإعلام؟ لماذا، مثلا، لا يوجد برنامج نقدي في الفضائيات والإذاعات العربية حتى الآن، ولماذا لا توجد مجلة متخصصة في السينما، ولا اهتمام بالنقد السينمائي في الصحف، وحتى عندما يظهر برنامج أو مجلة أو صفحة متخصصة في السينما، سرعان ما يتم إغلاقهم سريعا لعدم وجود قراء أو دعم كاف من الصناعة نفسها، التي تروج لمنتجاتها هذه البرامج والصحف؟! الناقد علي أبو شادي الذي أدار الندوة أشار مثلا إلى المعاملة السيئة التي تعرضت لها برامج تليفزيونية مميزة وناجحة كان يقوم بإعدادها، وهي برامج استفاد منها الكثيرون من هواة السينما، وتعلموا منها مبادئ التذوق والنقد، وأنا منهم. لا أنسى برنامج "نادي السينما" الذي كان نافذتي الأسبوعية لمطالعة السينما العالمية الفنية، وتلك الحوارات التي تسبق وتعقب عرض الأفلام، بين مقدمة البرنامج درية شرف الدين وضيوفها من النقاد والسينمائيين. ولا أنسى كتابات الناقد كمال رمزي، التي أشرت إليها في العدد الماضي، والتي اكتشفت بعد مرور سنوات طويلة، واطلاعي على أحدث الدراسات السينمائية في العالم، أن كمال رمزي، بفطرته وشغفه بالسينما وعلاقتها بالجمهور والمجتمع، كان سباقا ورائدا لهذه الدراسات بالرغم من أنه لم يضع لها إطار نظري فلسفي، كما يفعل الدارسون الغربيون. لا أنسى نشرات "نادي سينما القاهرة"، التي كانت تصدر أسبوعيا مع عروض الأفلام، وكان يشارك فيها كل نقاد مصر الكبار، فريد سمير وسامي السلاموني ومصطفى درويش وغيرهم. وقد اختبرت شخصيا أهمية المطبوعات والكتابة الجادة عن السينما من خلال عملي في مجلة "الفن السابع"، التي كان يمولها ويرعاها الفنان محمود حميدة، فرغم أن المجلة كانت شهرية ولم تستمر سوى لثلاث سنوات، وتوقفت منذ أكثر من عشر سنوات، إلا أنني التقي بمعدل كل أسبوعين أو ثلاثة بشخص يخبرني أنه كان من قراء المجلة، أو أنه حصل على بعض النسخ القديمة منها، وأنه استفاد منها الكثير، ثم يبدي أسفه على توقفها ويعرب عن أمله بظهور مجلة مثلها. حتى لو توفر النقد، والمنافذ المخصصة له، تظل المشكلة في عدم وجود تأثير يذكر لهذا النقد على سوق إنتاج وتوزيع وعرض الأفلام. الناقد التونسي محرز القروي يبدي حزنه في الورقة التي قدمها للندوة بسبب الحالة العبثية التي تعاني منها السينما في إفريقيا عموما، ويضرب مثلا بفيلم "تمبوكتو" للمخرج الموريتاني عبد الرحمن سيساكو الذي عرض في كثير من كبرى المهرجانات الدولية وكان مرشحا للأوسكار كما حصل على عدد من جوائز "سيزار" المخصصة للسينما الأوروبية، وبفضل هذا النجاح "المهرجاني" والنقدي تم توزيع الفيلم في أوروبا، وحقق نجاحا جماهيريا كبيرا وصل إلى أكثر من 850 ألف مشاهد في فرنسا وحدها، في الوقت الذي لم يتخط عدد مشاهديه ثمانية آلاف مشاهد في إفريقيا كلها. مهرجان الأقصر نفسه أكبر مثال على الهوة السحيقة التي تفصل بين المهرجانات الفنية وأفلامها ونقادها وبين الجمهور، فالقاعات خاوية أو تكاد إلا من بعض الصحفيين القادمين من القاهرة. وهذه المشكلة ليست مقصورة على الأقصر، ولكن تعاني منها كل المهرجانات المصرية بلا استثناء، خاصة التي تقام خارج القاهرة. كيف يمكن تقريب المسافة بين النقد والجمهور؟ رغم كل المشاكل التي يتعرض لها النقد السينمائي في العالم، وهي شبيهة بمشاكله العربية والأفريقية، إلا أن المسألة نسبية وهناك اختلاف كبير في درجة انتشارها، وفي كثير من البلاد لم يزل للنقاد تأثير كبير على الصناعة، وحتى في أمريكا نفسها هناك الكثير من الأفلام المستقلة والصغيرة التي تحقق الشهرة والنجاح بفضل اهتمام النقاد بها، وأحدث مثل على ذلك فيلما "بيردمان" و"يبلاش" الفائزين بالعديد من جوائز الأوسكار، فقد كان ما كتب عن هذين الفيلمين هو السبب الرئيسي في ترشحهما وفوزهما وأيضا في إقبال الملايين من المشاهدين عليهما. في مصر لم تزل الهوة سحيقة، وليس هناك تأثير يذكر، إيجابيًا أو سلبيًا، للنقد على الصناعة، وسمعة النقاد في الحضيض. بعض القراء يرون أنهم متحزلقون و"مكلكعين" وغير مفهومين، والبعض الآخر يرى أنهم سطحيون ومجاملون للنجوم والمنتجين. وبالطبع الفئة الأولى غير الفئة الثانية، وربما يتسبب "ناقد" واحد معقد أو مرتشٍ في الإساءة للجميع. ندوة مهرجان الأقصر لم تتعرض لهذه الجزئية تحديدا، ولكن التركيز كان على كيفية رفع مستوى النقد، على مستوى الكتابة ومستوى النزاهة، وأعتقد أن تطوير النقاد لأنفسهم على المستويين هو أول خطوة لكسب حب وثقة القارئ.. وبالتالي القدرة على التأثير على الجمهور وذوقه ومن ثم التأثير على الصناعة نفسها. ...على أية حال ليست مهمة النقد التأثير على الصناعة، فهذه ستظل خاضعة لاعتبارات كثيرة استهلاكية وتجارية وسياسية، ولكن مهمة النقد الأساسية هي التأثير في ذوق النخبة الثقافية، وبالتالي رفع حد سقف التفكير والتعبير، وهو ما يسهم تدريجيا وببطء في رفع المستوى الثقافي العام.