تنطلق "كلاب الراعي"، الرواية الخامسة للكاتب أشرف العشماوي، من مفهوم غير قاصر على السياسة فحسب، ولكن أيضًا تعرض إلى الحياة الاجتماعية والإنسانية لشخوص الرواية، التي تدور أحداثها في ربوع المحروسة، في فترة حكم المماليك، قبيل تولي محمد علي باشا بسنوات معدودة. لم يكتف العشماوي بالحديث عن الحياة السياسية بشكلها السطحي، لكنه غاص في مؤامرات المماليك ومحمد علي للاستيلاء على الحكم، ودارت الدائرة بين كل من الألفي باشا، وخسرو باشا والبرديسي بك والباب العالي ومحمد علي باشا والقنصل الإنجليزي والفرنسي وقنصل النمسا، حيث تتوالى المؤامرات التي صيغت بحرفية وتفصيلية زادتها بعدا انسانيا فوق بعدها التاريخي ، ليغوص العشماوي في اعماق النفس البشرية وشهواتها، وعلاقاتها المتضادة والتكاملية. ونجح الكاتب ببراعة في أن يغوص في أعماق تاريخ منسي، واستطاع باستخدام "التفصيلة" كعنصر أساسي في الحكي ، في صناعة عالم مواز لحياتنا ، يبعد عنا أكثر من قرنين من الزمن، لتطل علينا مصر ''المحروسة" بأماكن تحمل أسماء مختلفة عن عالمنا. وقال الكاتب في الرواية :''يا ولدى انتم تثورون على ظالم لتأتوا بأشد منه ظلما، لا تراهنوا على القوى فقط، وانما اختاروا العادل الذى يراهن علينا نحن المستضعفين''، ورغم واقعية الرواية، إلا أن الكاتب جعل بطل روايته يبدو كبطل أسطوري أو شعبي، ليظهر لنا الشاطر حسن الذي تعمد الكاتب إعطائه هذا اللقب، ليفتح لنا المجال ما بين تصديق وجوده الواقعي ''الحسن بن جمال الدين الرومي''، ووجوده الأسطوري ''الشاطر حسن''، وما بين الوجودين ما بين المشرق والمغرب، فبينما ينتصر الشاطر حسن الاسطورة في الحكايات، ويتزوج في النهاية بالأميرة الحسناء. ثم ينقلنا العشماوي ببراعة بين الضدين ''كمال والحسن ''، الأخين غير الشقيقين، حيث بدت العلاقة بينهما تكاملية ضدية، فكل منهما كان سببا غير مباشر في وجود الاخر ، فلولا تواجد المماليك بسطوتهم التي يمثلها كمال ، لما تواجد الحسن لمواجهتها ، ومحاولة كشف الحقيقة ، ولولا وجود الحسن ''الثوري الذى يخرج عن القطيع '' لما تواجد كمال الذى يحاول دوما ان يعزز اركان سطوته ، ويضرب بيد من حديد . ورغم ان كلاهما كان يمثل تهديدا للأخر ، الا ان كلاهما كانت بداخلهما رغبة دفينة في الابقاء على هذا التهديد ، وربما لشعورهم بارتباط حياتهما معا ، ففي كل محاولات كمال للقضاء على حياة الحسن ، كان يتراجع عنها بعبارات مثل ''اريده حيا '' ''اطلقوا النار على ساقيه '' ثم ادعاء موته، الحيلة التي لجأ اليها كمال حين قدم رأس احد العبيد بدلا من اخيه ، والحسن حين صنع جنازة غير حقيقية لكمال. وكما ارتبطت حياتهما معا ، انتهت معا فكمال لقى مصرعه بينما الحسن ينتظر مصيره في سجن العرقانة، دون أي اشارة الى ان مصيره سيختلف كثيرا عن اخيه، بعض التفاصيل صنعها العشماوي بحرفية، لتتجلى في بعض الاحيان، ويصبح لها صدى، ففي تفصيله ''النظر الى الكف الايسر" التي ظلت ملازمة لكمال حتى في اوج قوته. "كلاب الراعي"، الاسم الذى بدا كلاسيكيا، لكنه لم يكن كاشفا للرواية، مما جعل القارئ يحاول الوصول الى مقصودية العنوان، وعلى الرغم من ان الاسم ظهر في اكثر من موقع بالرواية ، ان كلاب الراعى هم المماليك ، حين كان المصريين يهتفون ''يا برديسى يا كلب الراعى ...روح خدلك عضمة من الوالي ''، الا ان العشماوي لم يعلنها بشكل مباشر ليفتح الباب للتأويل ، وخصوصا حين تساوى الجميع في النهاية المماليك ومحمد على ، فبدا العنوان اكثر شمولية ، ليشمل كل الذين يسعون الى الحكم ، وينقضون عليه حين تسنح الفرصة ، بينما يتظاهرون بعكس ذلك ، فكما اطلقها محمد على، على المماليك في مقولته ''هؤلاء الذين تحسبهم زاهدين ، ينتظرون الفرصة للانقضاض على القلعة في أي وقت ، مثلهم مثل كلاب الراعي يسيل لعابها طمعا في الشاة التي ذبحها امامهم ''.