حروب الميليشيات.. إما أن تعود جثة بلا رأس.. وإما أن لا تعود أبدًا منفذ السلوم مغلق بشكل رسمي إلا أمام المصريين العائدين.. أما الليبيون فيدخلون بشروط محددة الطريق إلى الداخل الليبى غير مأمون بسبب قطاع الطرق والمتطرفين والمسلحين الكارهين لمصر والمصريين غياب شبه تام للدولة الليبية على منفذ «إمساعد».. ودخول الصحفيين ممنوع إلا عبر اتصالات مع الجانب المصرى ضابط مصرى لعبدالستار حتيتة: «لكى تعبر هذه النقاط الأمنية لا بد أن تكون من مواليد مطروح، أو متزوجا من ليبية، أو لديك أقارب في ليبيا» محمد الباز الصورة غائمة، ما في ذلك شك... لا أحد يعرف على وجه التحديد ما الذي يجرى هناك، حتى الذين سافروا مخاطرين بحياتهم، عادوا وهم يحملون على ظهورهم علامات استفهام ثقيلة لا تريد أن تغادرهم، فكيف لمن دخل الجحيم بقدميه أن يعرف من أين تأتيه النار. في الوقت الذي كان ال21 مصريا قى مواجهة الموت على يد شياطين داعش في سرت، كانت المطابع في القاهرة تلقى في وجوهنا عن دار كنوز للنشر بكتاب «حروب الميليشيات... ليبيا ما بعد القذافى»... يناقش فيه مؤلفه الزميل الكاتب الصحفى عبدالستار حتيتة واقع ومستقبل الجماعات الإرهابية في ليبيا. الكتاب في اعتقادى يأتى في وقته تماما، على الأقل حتى نفهم ما الذي يجرى هناك، من هؤلاء الملثمون الذين يصدرون لنا العنف والإرهاب والدم والحزن... كيف خرجت كل جيوش الظلام من كهوفها، لتقف أمامنا متحدية وعنيدة، وراغبة في القتل والفتك بكل من يعارضها، أو لا يرضى بما تعتنقه. كل ما سأفعله هنا أننى سأقرأ معكم الكتاب، لكنه في أي حال لن يغنى عن قراءته الكاملة، فهو يأخذك من راحتك وفراشك الدافئ، لتواجه على الطبيعة الجحيم الأرضى في أرض ليبيا، وهو جحيم لا مكان فيه للرحمة، ولا أمل في الخروج منه. لم يكتب عبدالستار حتيتة، وهو صحفى مهم في ملفه وكاتب متميز في جريدة الشرق الأوسط، وهو جالس وراء شاشة الكمبيوتر، لم يطلق لخياله العنان، فيختلق لنا أحداثًا حتى يقنعنا أن الخطر قادم، لقد دخل الجحيم بقدميه، وهو يعرف أنه يمكن ألا يعود، ولذلك تأتى أهمية ما كتبه وخطورته أيضا، وهو ما يجعلنى أتعامل مع هذا الكتاب على أنه أدب رحلات... حتى لو كانت الرحلة إلى جهنم. يقولون إننا يجب أن ندخل البيوت من أبوابها، وهنا دعونا ندخل الكتاب من مقدمته، ففيها بيان شاف لما خلف الأبواب المغلقة. عندما وقف عبدالستار حتيتة على الحدود الليبية مستعدًا لعبورها، وضع أمامه ضابط مصرى الحقيقة كاملة عارية، قال: «لكى تعبر كل هذه النقاط الأمنية، لا بد أن تكون من مواليد محافظة مطروح، أو متزوجا من ليبية، أو لديك ما يثبت أن لك أقارب في ليبيا». بالقرب من هذه الحقيقة، كانت هناك حقيقة أخرى، نحو 50 شاحنة ونحو 70 مصريا وليبيا ينتظرون إنهاء الإجراءات في منفذ السلوم البرى لدخول ليبيا... ونقول عما جرى حقيقة، لأنه كانت هناك حقيقة أخرى، فهذه المساحة كانت تزدحم بآلاف من المغادرين والقادمين بين جانبى الحدود، لكن كل هذا انتهى.. ليصبح عدد عناصر قوات الأمن أكبر من عدد المسافرين، وأصبحت سيارات الحراسة أكثر من شاحنات البضائع، وبدلا من أصوات الأغانى الصاخبة التي كانت تنطلق من السيارات المستعدة للعبور، أصبحت تسمع أخبار القتلى والمهجرين والمذبوحين تنطلق من نشرات الأخبار. رحلة حتيتة التي سجلها في كتابه تمت في أكتوبر 2014، سبقتها ثمانى رحلات بعضها كان في زمن القذافى. الإحساس بالخطر يبدأ قبل أن تدخل ليبيا.. وقد بدأت الرحلة هكذا. في منفذ السلوم كان ينتظر مع 5 أو 6 من المصريين والليبيين الذين يعدون أنفسهم لاجتياز آخر حاجز أمنى في اتجاه ليبيا، كانت الأخبار المسيطرة على المشهد هي أخبار من تعرضوا للذبح على أيدى مقاتلى داعش في مدينة درنة التي تبعد عن حدود مصر نحو 300 كيلو متر. **** من بين المنتظرين أمام المعبر كان «أحسونة» طالب من بنغازى، يدرس في جامعة القاهرة، قال: «رفاق الأمس -في إشارة إلى من قاموا بالثورة- يبدو أنهم كانوا يحشدون إمكاناتهم في مواجهة كل منهم للآخر، منذ وقت طويل، من أجل خوض هذه الحرب المستعرة منذ أشهر». صمت «أحسونة»، نظر إلى سيارات الإسعاف الجديدة المحملة بالجرحى والقادمة حالا من الجانب الليبى من الحدود، ثم قال: «كل يوم يسقط ضحايا.. وكل يوم تهدم المباني». لم يكن «أحسونة» يعرف شيئا عن أسرته، سمع أن إحدى الجماعات المتطرفة أسرتها، وخشى أكثر أن يكون أهله تعرضوا للانتقام من جماعة أنصار الشريعة لأنهم يعتنقون المنهج السلفى. على الجانب الآخر من الحدود ظهرت مجموعة من العجائز الليبيات وهن يجتزن معبر «إمساعد» الليبي، وقد وصلن توا، وبدأن في المشى على أقدامهن ناحية منفذ السلوم، وعلى ملابسهن آثار الغبار، وولجت إحداهن وهى تحمل أوراق صاحباتها، إلى صالة الوصول المصرية الخاوية، في انتظار الضابط المسئول لكى تأخذ إذن الدخول. **** عبدالله، سائق سيارة إسعاف ليبية، كانت تنتظر دورها لاجتياز معبر السلوم قال: «المصريون أغلقوا الحدود، ويؤخرون دخول الجرحى وكبار السن، لكن هذا حقهم، فهم يخشون تسلل عناصر من داعش أو من الإخوان لتنفيذ عمليات تخريبية في مصر.. على كل حال نقل الجرحى لمصر أفضل من نقلهم إلى تونس، فإضافة إلى بُعد المسافة من بنغازى لتونس، تتقاضى السلطات التونسية على الحدود مبالغ كبيرة تصل لنحو 50 دينارا (نحو 30 دولارا) عن كل فرد بينما المصريون لا يتقاضون أكثر من 10 جنيهات (أقل من دولار ونصف دولار)». على نافذة الجوازات بدأت الحركة تدب.. انتهى الضابط المصرى من وقت استراحته، واستأنف عمله الذي لا يزيد عن فحص وختم بضع عشرات من جوازات السفر في اليوم، وأخذ يدقق في أوراق رجل ليبى وزوجته المصرية وأطفاله ال3، ويسأل عن سبب قدومه، ويفحص على جهاز الكمبيوتر عما إذا كان اسمه من بين الأسماء المطلوبة أو الممنوعة من دخول البلاد. وأخيرا يختم جوازاتهم، ويقول وهو يتنفس الصعداء: «تفضلوا». هذا الضابط يدعى «أحمد» قال: إن منفذ السلوم مغلق بشكل رسمي، ويستقبل فقط المصريين العائدين من ليبيا، أما بالنسبة للأشخاص الليبيين الذين تستثنيهم السلطات المصرية ويحق لهم دخول البلاد، من المنفذ نفسه، فلا بد أن تتوافر فيهم شروط محددة وهى أن يكونوا من الجرحى أو المرضى الموصى بعلاجهم في مصر، لكن بعد أن تقوم السلطات الليبية بإبلاغ الجانب المصرى من الحدود بأسماء هؤلاء، اسما اسما. ومن بين الشروط أيضا أن يكون الليبى الذي يرغب في دخول مصر متزوجًا من مصرية أو أنه ابن لأم مصرية. ليس هذا فقط، بل لا بد أن تكون زوجته أو والدته بصحبته، وهناك استثناءت أخرى تتعلق بكبار السن مثل العجائز اللائى ينتظرن دورهن في دخول مصر وهن يحملن صُررا من ملابسهن وما تبقى لهن من متاع الدنيا. ***** لم يكن من السهل اجتياز الهضبة المصرية للوصول للأراضى الليبية إلا بشق الأنفس واجتياز إجراءات متشابكة عبر عدة نقاط يتمركز فيها رجال أمن مصريون يعيدون عليك مرة وراء مرة تحذيرات بالأخطار الكامنة هناك، يقول أحدهم: «حتى لو كان من حقك أن تسافر كصحفى أو كمواطن لديه أقارب في ليبيا، فعليك أن تعلم أنك، بوصفك مصريا، ربما لن تعود إلا جثة.. وربما جثة مقطوعة الرأس.. وفى هذه الحالة لن نستطيع أن نقدم لك إلا خدمة وحيدة، وهى تسلّم جثمانك من الجانب الآخر من الحدود لتوصيله لذويك بمصر». **** الطريق من «إمساعد»، وهى أول مدينة ليبية بعد الحدود المصرية، إلى الداخل الليبي، غير مأمونة «لا أحد يضمن عدم وجود متطرفين أو قطاع طرق، أو مسلحين متشددين يكرهون مصر والمصريين، هؤلاء لا يتفاوضون، بل يقتلونك على الفور، وفى أفضل الأحوال، يختطفونك لكى يتفاوضوا على مبلغ مالى كبير مقابل إطلاق سراحك، وفى نهاية المطاف يمكن أن يقتلوك أيضا بعد أن يحصلوا على الفدية». هكذا يخبرك موظف في الأمن المصرى بالسلوم، يدعى شريف، وهو يرفع حاجبيه كأنه يروى لك أحداث فيلم من أفلام الرعب التي يمكن أن تشاهدها على أرض الواقع وأنت في الطريق. وتخشى السلطات المصرية من تسلل المتطرفين من جماعة الإخوان المسلمين وتنظيم داعش وأنصار تنظيم القاعدة، وغيرها من التنظيمات الخطرة التي أصبحت تنتشر في ليبيا، إلى داخل أراضيها، ولهذا أصبحت إجراءات اجتياز الحدود صعبة، سواء من حيث تقديم ما يلزم من أوراق أو من خلال ما تسمعه من قصص مخيفة لا تشجع على السفر. ***** بالنسبة لمحاولات المتطرفين المدربين التسلل من ليبيا إلى الأراضى المصرية، لتنفيذ عمليات تخريبية فيها، انتقاما من الجيش والأمن بمصر، فقد أصبحت شديدة الصعوبة. أولًا بالنسبة لتأمين المنفذ الرسمى بين البلدين، فتوجد في الوقت الحالى إجراءات غير مسبوقة.. مثلا توجد قوة شرطية مصرية معززة بقوة أمنية مسلحة بأسلحة ثقيلة، على المدخل الخارجى لمدينة السلوم، أي أنك قبل أن تدخل إلى، أو تخرج من، المدينة الواقعة تحت الهضبة الفاصلة بين حدود البلدين، لا بد من التعريف بنفسك وبوجهتك إضافة لتفتيشك وتفتيش سيارتك. وقبل أن تسلك الطريق الأفعوانية الصاعدة إلى أعلى الهضبة، توجد نقطة أمنية مسلحة أخرى، تقوم بعمليات تفتيش دقيقة، وتتأكد من أن معك من الأوراق ما يمكنك من مواصلة العبور في اتجاه المنفذ. وفى أعلى الهضبة تمر ب5 نقاط تفتيش لا يفصل كل منها عن الأخرى سوى عدة عشرات من الأمتار. نقطتان في منفذ السلوم القديم، وهو منفذ كان مهجورًا وغير مستخدم منذ سنوات، لكن الآن، وبعد القلاقل المتفجرة في ليبيا، أصبحت تتمركز فيه قوات من الأمن تقف خلف متاريس وخلف مواسير المدفعية.. وهكذا تخضع في كل مرة لتفتيش دقيق لكل شيء، بداية من الأوراق الثبوتية حتى الجيوب الداخلية لحقائب السفر. وأخيرا تنتهى من إجراءات الخروج من مصر.. تقطع نحو 500 متر مشيا على الأقدام للوصول إلى المنفذ الليبي، أي منفذ إمساعد. تجر حقائبك تحت الشمس وتتلفت خلفك فربما تأتى سيارة لتريحك من هذا المشوار المرهق. في السابق كانت هناك سيارات تقل المسافرين من منفذ السلوم إلى منفذ إمساعد، مقابل 50 جنيها للفرد الذي يفضل استئجار سيارة خاصة، أو مقابل 10 جنيهات لمن يريد أن يركب مع آخرين. في الوقت الحالى لم تعد توجد هذه الرفاهية بسبب قلة عدد المسافرين.. فقط تمشى وتتلفت وراءك ربما تأتى سيارة عابرة. وهذا ما كان، سيارة كورية الصنع فخمة يقودها شاب ليبي، يدعى جمال، في العشرينات من العمر. كان في زيارة لأقاربه في السلوم، من قبيلة القطعان، وهى من كبرى القبائل في الشرق الليبى. والآن هو عائد إلى أسرته في مدينة طبرق التي يوجد فيها مقر البرلمان الليبى الجديد. سأل «إلى أين؟». وكانت الإجابة جاهزة «إلى المنفذ.. جوازات إمساعد». فوافق وقد حدد الأجرة بشكل مبالغ فيه، قائلا «أوكى.. 10 دنانير». ومن يستطيع أن يرفض في مثل هذه الظروف، وعلى الفور كانت الحقائب في السيارة وبوابة إمساعد تقترب. يا للمفاجأة المرعبة.. البوابة خاوية. لا وجود لأى حرس أو جنود أو ضباط. لا وجود لأى موظفين. مجرد طرقات ومسارات وغرف مغلقة وقطع كبيرة من الحجارة كانت تستخدم في السابق في غلق شوارع المنفذ على ما يبدو. واجتاز السائق المعبر من دون أن نختم شعار الدخول على جواز السفر، وقال: إن هذا أمر عادي، لأنه لا يوجد أحد. وهنا بدأ الخوف. أين هي عناصر الدولة الليبية؟ أين حرس الحدود؟ أين كتائب التأمين التي نقرأ عنها؟ ولم يعد هناك من ملاذ سوى السائق جمال، الذي كان يريد أن يأخذ أجرته، ال10 دنانير، ويمضي، بيد أنه كان لا بد من إغرائه لكى ينتظر «أنت، يا أخ جمال، بالتأكيد مسافر إلى طبرق.. ولهذا دعنا نتفق على سعر التوصيلة إلى هناك بالمرة.. لكن لا يمكن مواصلة السير أكثر من هذا، قبل العودة لختم جواز السفر من المنفذ الليبى. هل تعرف أين هم ضباط الجوازات الآن؟ مَن يضمن ما يمكن أن يحدث هناك، وساعتها، لو تعرضت لأذى، لن يكون هناك أي دليل رسمى على دخولى الأراضى الليبية». وبدأ جمال يظهر نفاد صبره، ورجع بسيارته مرة أخرى، لكن في الاتجاه المعاكس، أي من المنفذ المتجه ناحية مصر. وهناك عثر على 5 جنود ليبيين كانوا يلهون مع أحد زملائهم من زوار المنفذ قرب سيارة عسكرية عليها مدفع عيار 23 مم. قال لأحدهم «نريد أن نختم دخول مصري». وكان هناك ختمان للدخول والخروج يتدليان من عنق الجندى الذي دخل إلى غرفة ونحن خلفه، وحين شاهد كلمة صحفى في جواز السفر قال: إن هذا ممنوع، ويتطلب إجراء اتصالات مع قيادته العسكرية في المنطقة الشرقية من ليبيا. حسنا! واستغرق الأمر مزيدا من الوقت قبل أن تأتى الموافقة بالدخول. وطبع الختم على الجواز. وبدأت السيارة تتحرك مجددا إلى أول بلدة ليبية بعد الحدود. وكما ضرب الكساد مدينة السلوم في الجانب المصري، تجد الشلل الاقتصادى شبه التام قد تمكن من مدينة إمساعد على الجانب الليبى.. محال تجارية شبه مغلقة ومقاه خاوية ومراكز اتصالات يطن فيها الذباب. توجد شاحنات ليبية وأخرى مصرية لنقل البضائع، لكن السائق جمال يقول إنها لا تساوى شيئا مقارنة بالمئات من الشاحنات الضخمة التي كانت تسد الطرقات هنا وتملأ الساحات الممتدة على جانبى المدينة. كانت البضائع تأتى من الموانئ البحرية الليبية ويجرى تشوينها في مخازن كبيرة في «إمساعد»، إلى أن تأتى الشاحنات المصرية لنقلها إلى داخل مصر. وفى المقابل كانت الشاحنات المصرية تحجب الشمس هنا من كثرتها وهى محملة بقوالب الرخام والسيراميك والأسمنت والجبس والحبال وغيرها. وخلافا للفراغ الأمنى الموجود في منفذ إمساعد البري، يبدو الأمر مختلفا في داخل بلدة إمساعد نفسها، والتي لا يزيد عدد سكانها على نحو 5 آلاف نسمة. هنا توجد قوات عسكرية ليبية نشطة، وكان يمكن مشاهدة ما لا يقل عن 9 سيارات دفع رباعى فوقها مدافع من عيار 14.5 مم و23 مم، وجنود يحملون أسلحة من نوع «إيه كيه 47». وتشعر بوجود عيون تراقب الغرباء، وفى ساحة سيارات الأجرة بدا الموقف يعبر عن نفسه، لا أحد هنا، وتبدو موائد مطعم «ثورة 17 فبراير» الذي كان يعتمد على المسافرين بين البلدين، مهجورة ويغطيها التراب، بينما الريح تطير بقايا الورق والغبار على الواجهة. وقبل أن يتوقف أمام مقهى «الحدود» المتخصص في بيع القهوة الإيطالي، يضيف السائق جمال قائلا في يأس، وكأنه غير قادر على السكوت، إن الحرب الداخلية في ليبيا أثرت على كل شيء وقتلت التجارة بين البلدين، ولم تعد هناك غير محاولات بائسة لتهريب البضائع إما عن طريق البر، وهو أمر أصبح شديد الصعوبة، أو عن طريق البحر، حيث تتولى مراكب صغيرة نقل السلع إلى السلوم عبر خليج البردى المقابل للهضبة المصرية. وظن صاحب المقهى، وهو يمسح بملعقة صغيرة على رغوة الفنجان قبل أن يقدمه للسائق جمال، أننا تجار ممنوعات أو مهربون، فنبهنا سريعا لكى نأخذ حذرنا، وهو يشير إلى سيارة جيش ليبية توقفت حالا أمام المحل، وما هي إلا أقل من دقيقة حتى دخل ضابط أسمر وأحمر العينين ومتحفز.. مسدس يتدلى من خصره، وفى يده بندقية «إيه كيه 47». وفحص الأوراق، ثم بدا أنه استراح أخيرا لفكرة وجود صحفى هنا، فطلب من زميله عبر جهاز اللاسلكى أن يترك السيارة ويأتى لشرب القهوة هنا. ويحمل الضابط رتبة مقدم، ويدعى إحميدة، وهو من قبيلة العبيدات، وهى واحدة من القبائل الكبرى التي تهيمن على المنطقة الشرقية من البلاد، ويرى أن مسئولية حماية الحدود ليست لكونه يتبع الجيش الليبى فقط، ولكن لأنه «عبيدي» أيضا هو والمجموعة التي تعمل معه، وغالبيتهم متطوعون ولا يتقاضون أي رواتب من الدولة، ويضيف أنه لا يصح أن يقال إن المتطرفين يمرون من أراضى العبيدات سواء كان أولئك المتطرفون قادمين من مصر إلى ليبيا أو العكس. ويقول إنه رغم ضعف الإمكانات فإن الكتيبة الحدودية تمكنت من توقيف المئات من الجنسيات المختلفة ممن كانوا يسعون للعبور إلى مصر أو إلى ليبيا بشكل غير قانوني، على أيدى مهربين مسلحين يستخدمون سيارات الدفع الرباعي، وإن من بين من جرى توقيفهم خلال الشهرين الماضيين مصريون وليبيون وسودانيون ويمنيون وسوريون، لافتا إلى أن غالبية هؤلاء كانوا يقصدون مدينة بنغازى للانضمام إلى المتطرفين مما يسمى ب«أنصار الشريعة» و«ميليشيات الإخوان» الذين يحاربون الجيش والشرطة، وأن بعضهم كان قادما من مصر مباشرة والبعض الآخر كان قادما من السودان عبر الأراضى المصرية. ويضيف أن هذا النوع من المهاجرين المتطرفين يجرى التعامل معهم عن طريق جهات التحقيق الليبية لمعرفة من يقف وراءهم ومن يقوم بتمويلهم، وأن بعض المهاجرين الآخرين يسعون فقط للعمل في مدينة طبرق الهادئة، لكن كل من يلقى القبض عليه تجرى إعادته من حيث أتى، حيث جرى تسليم الجانب المصرى أكثر من 300 مهاجر من هذا النوع خلال الأسابيع الماضية. والعجيب أن الضابط إحميدة قدم نصائح وهو يشيعنا متطابقة للنصائح التي سبق أن قدمها الضباط المصريون عن خطر البوابات الأمنية الوهمية التي يديرها المتطرفون بين المدن الليبية، واحتمال أن يذبحوك مباشرة لو عرفوا أنك صحفى مصرى. وبدأت رحلة المتاعب، إلا أن السائق جمال بدأ في تلطيف الأجواء وإملاء التعليمات التي تضمن سلامة الوصول إلى طبرق، إنها تعليماته الخاصة. أولا: الأجرة 160 دينارا، يضاف إليها الدنانير ال10 الأولى الخاصة بالتوصيلة من منفذ السلوم لمنفذ إمساعد، فتكون 170 دينارا. ثانيا: لا حديث باللهجة المصرية في أي من البوابات والنقاط الأمنية التي سنمر بها، فربما تكون إحداها تابعة للمتطرفين، فيذبحونك من دون أن آخذ أجرتى. وضحك. وصمت قليلا. ثم واصل قائلا: التصوير ممنوع.. الحديث في أي أمور سياسية مع الناس، وأنت معي، ممنوع، سواء في بلدة قصر الجدى أو في طبرق. وبعد أن نفترق، افعل ما تشاء، لا تعرفنى ولا أعرفك. والآن نستمع إلى الأخبار في الراديو. من النسخة الورقية