ولد جان باتيست بوكلان، الملقب ب"موليير"، في مثل هذا اليوم الموافق 15 يناير من عام 1622، في مدينة باريس، وكان والده يشتغل في صناعة الفرش، أما جده فكان مولعًا بالفنون، وهو الذي كان يأخذه معه إلى المسرح، وهذا ما زاد من إعجاب الصبي موليير بالمسرحيات الهزلية على وجه الخصوص. دخل موليير إلى إحدى المدارس الثانوية الباريسية لإكمال تعليمه، ويُقال إن زميله على مقعد الدراسة كان أحد الأمراء الفرنسيين، وهو الذي رعاه وحماه فيما بعد عندما شعر بموهبته. اختلف موليير مع والده عندما كبر، لأن هذا الأخير كان يريد أن يشتغل معه في صناعة السجاد والفرش، بل وأن يستلم المخزن مكانه بعد أن يكبر ويشيخ، ولكن موليير ما كان يريد تكريس حياته لهذه المهنة التي لا يحبها، ولذلك دخل إلى كلية الحقوق، ثم تعرف بعدئذ على عائلة فنانين تدعى بيجار، وأصبح صديقًا لهم، وعندئذ غير اسمه ولقب بموليير لأول مرة، ولم يعرف أحد سبب هذا التغيير المفاجئ الذي طرأ عليه، ولماذا اختار اسم موليير دون غيره، وما كان يعرف أنه سيصبح أشهر اسم في تاريخ المسرح الفرنسي، وربما العالمي. وفي عام 1643 عندما كان في الواحدة والعشرين من عمره، أسس مع عائلة بيجار هذه المسرح الشهير في باريس، وكانت مديرته بنت العائلة، وتدعى مادلين، وقد وقع موليير في حبها، واشتغل كممثل مع مادلين بيجار لمدة خمس سنوات متواصلة، ولكن بداياته في المسرح كانت رديئة ولم تجذب إليه مشاهدين كثر. حظي بعدئذ برعاية ولي العهد وشقيق الملك، وقد أتيح له أن يلعب في مسرحية تراجيدية أمام الملك لويس الرابع عشر، وهو من أشهر ملوك فرنسا، ولكنها كانت مسرحية مملة، ثم لعب مسرحية هزلية ونجح فيها، واستطاع أن يضحك الجمهور، وعلى رأسهم الملك. عرف الملك أنه يمتلك مواهب كبيرة في الهزل لا الجد، فصوته وإشاراته وحركاته كانت كافية لجعل المشاهدين يضحكون حتى الدموع، ولهذا السبب نال شهرة واسعة في مجال المسرح الفكاهي أو الهزلي. وعندئذ خصص له الملك مكانة دائمة في المسرح الموجود داخل قصره لكي يضحكه ويروّح عن نفسه عندما يشاء، وكانت عادة الملوك آنذاك أن يحيطوا أنفسهم بكبار الموهوبين من كتّاب وفنانين. كانت أول مسرحية هزلية كبيرة يلعب فيها موليير، هي تلك المدعوة "بالمتحذلقات السخيفات"، وقد لعبها لأول مرة عام 1659، أي عندما كان في الثامنة والثلاثين من عمره، وقد نجحت هذه المسرحية نجاحًا باهرًا، ونالت رضى الملك الذي أغدق عليه العطايا والهبات، ولكن السيدات المتحذلقات اللواتي سخر منهن موليير، حقدن عليه ودمرن مسرحه، وعندئذ بنى الملك لموليير مسرحًا خاصًا به. وفي عام 1662 تزوج موليير من فتاة تُدعى أرماند بيجار، وكانت تصغره بعشرين سنة على الأقل، وفي العام ذاته راح يهتم بموضوع مسرحي غير مطروق أو غير معهود في ذلك الزمان وهو: وضع المرأة في المجتمع. وكتب عندئذ مسرحية بعنوان: مدرسة النساء، وقد حققت نجاحًا صارخًا، لكن رجال الدين شعروا بالضجر منه وراحوا يشككون في أخلاقيات موليير، واتهموه بالإباحية، كما وخافوا من تأثيره السيء على الملك، ولذلك أدان الأصوليون هذه المسرحية، واعتبروها خلاعية ومضادة للدين، يُضاف إلى ذلك أن اهتمام الملك به وإغداقه الهبات عليه جعل الممثلين الآخرين يغارون منه ويكرهونه. وقد رد عليهم عن طريق كتابة مسرحيات جديدة تستهزئ بهم، فالرجل كان واثقًا من نفسه وذا شخصية قوية، وفي عام 1664 صدر أمر ملكي بتعيين موليير مسؤولاً عن قسم الترفيهات في القصر الملكي، وهو منصب رفيع بالنسبة لذلك الزمان، وفي العام نفسه كتب موليير إحدى مسرحياته الشهيرة بعنوان: المنافق، أو مدعي التقى والورع. وفيها أدان ازدواجية بعض رجال الدين الذين يظهرون الورع ويخفون عكسه، ولكن هذه المسرحية أحدثت فضيحة في الأوساط الدينية الفرنسية، وقامت الدنيا ولم تقعد بسببها، واضطر الملك إلى إيقاف تمثيلها لكي يخفف من سخط الكهنة والرهبان والمطارنة، هذا ناهيك عن البابا، ولكن موليير تحايل على الرقابة وقدم حفلات تمثيل خاصة لها. وفي عام 1665، أبدعت عبقرية موليير مسرحية جديدة بعنوان: "دون جوان"، وقد لاقت هي الأخرى أيضًا نجاحًا منقطع النظير، وأصبح اسم موليير على كل شفة، لدرجة أن الملك دعا فرقته المسرحية باسم "فرقة الملك"، وهكذا أصبح موليير أهم فنان في عصره، ونال المجد من مختلف أطرافه، وطبقت شهرته الآفاق، وخلال السنتين اللتين تلتها كان موليير مريضًا، ولذلك لم يكن يشارك فرقته في التمثيل بشكل منتظم، ولكنه لم ينقطع عن الكتابة والإبداع. ألّف آنئذٍ مسرحية شهيرة تحت عنوان "كاره المجتمع"، أو "مبغض البشر"، وفيها يعبِّر عن ألمه ومرارته بسبب افتراقه عن زوجته أرماند أو طلاقه لها. ثم كتب مسرحية أخرى تحت عنوان "الطبيب رغمًا عنه"، وبعدئذٍ حاول أن يمثل مسرحية "المنافق" تحت اسم آخر، ولكن رجال الدين عرفوا بالأمر فمنعوها فورًا من جديد. وفي عام 1668، كتب مسرحيته الشهيرة "البخيل"، واشتهرت باسم "بخيل موليير" في شتى أنحاء العالم، فكل من يريد أن يضحك على البخل والبخلاء ما عليه إلا أن يذهب إلى المسرح ويشاهد هذه المسرحية الرائعة، ثم زالت الرقابة عن مسرحية المنافق عام 1669، وكتب موليير مقدمة المسرحية وقال فيها: "هذه المسرحية أحدثت من الضجة والفرقعة أكثر من غيرها بكثير، وقد اضطهدت وحوربت ومنعت أكثر من جميع مسرحياتي الهزلية السابقة، وقد برهن ذلك على ان رجال الدين هم أقوى الفئات في المجتمع ففي السابق تهكمت بالنساء المتحذلقات، أو بالأطباء الفاشلين، أو بالأرستقراطيين من دوق ومركيز، الخ أو بالمخدوعين من قبل زوجاتهم، ولكن لم يهددني أحد منهم على الرغم من كل ذلك ولم تمنع مسرحياتي بسببهم"، وعندئذٍ لقيت نجاحًا لا مثيل له على خشبة المسرح، وكان آلاف المشاهدين يتدفقون على المسرح لرؤيتها. أما آخر مسرحية كتبها موليير فكانت بعنوان "المريض الوهمي"، أي الذي يتوهم أنه مريض وهو لا يشكو من أي شيء في الواقع، ولكنه أصيب بوعكة صحية على خشبة المسرح وهو يمثلها ثم سقط صريعًا أمام كل الناس، عام 1673 م، وهكذا مات موليير شهيد المسرح الفكاهي الذي أعطاه الكثير، بل وأصبح اسمه رمزًا عليه، وكانت تلك هي أفضل موتة يحلم بها فنان كبير مثله. خلِّف وراءه عشرات الأعمال المسرحية الخالدة، نذكر من بينها :"الطبيب الطائر"، "الكسلان" أو "الظروف الطارئة المعيقة"، "الطبيب العاشق"، ولكن هذه المسرحية الهزلية ضاعت، ولم تصلنا، على الرغم من تمثيلها أمام لويس الرابع عشر.