المنسق العام لمنتدى المفكرين المسلمين لم يكن الفارق كبيرا في فوز مرشح جماعة الإخوان المسلمين، مرسي، في المنافسة شفيق على منصب الرئاسة. فقد كان الفارق ضئيلا بالنسبة للمصوتين ولمن يحق لهم الانتخاب، وإن لم يكن هناك تزوير أو أخطاء، إلا أن ضآلة الفارق في الفوز؛ أمر من شأنه أن يعلق جرس الإنذار في المستقبل القريب! ونحن إذ نبارك لمصر وللأمة، كون هذه الانتخابات الرئاسية الفريدة والأولى من نوعها في العالم العربي والإسلامي، نشدد على ضرورة عمق النظر والوعي والتقييم لكل مرحلة من مراحل العمل السياسي، إذ أن بناء الدولة يختلف مخالفة كاملة وتامة عن البناء الدعوي، فاليوم تنتقل دعوة وحركة الإخوان من البناء الفكري الحركي، إلى تسلم مقاليد أخطر دولة في العالم العربي، وهذا بحد ذاته يضع المصريين في بؤرة الاهتمام، ويضعهم أمام مسئولياتهم التاريخية، لأنهم مسؤولون، أكثر من غيرهم، إنجاح التجربة الجديدة أو فشلها، ومن ثم إجهاض الثورة والدولة. هكذا فإن الجماعة، والتيار الإسلامي بعمومه، يقف اليوم على حافة الهاوية، لأنه مطلوب منه الكثير والكثير، فمع وجود رصيد التجربة المتراكم منذ 1400 سنة، إلا أن هذه تعد تجربة جديدة جدا، بعد سقوط الخلافة العثمانية في 1924. إن جماعة الإخوان، والرئيس بصفة خاصة، يقف بين مفترق طريقين: فإما أن تعلي الجماعة من مصلحتها على مصلحة الأمة والدولة، وتمضي الأمور هكذا، وإما أن تقدَّم مصلحة الأمة ومصر على الجماعة، وهو اختيار صعب، ولكنه لا بد منه، ولابد من الوعي والتدقيق في الاختيار، ولأن الفرص لا تأتي كل يوم، لذا لا مفر من المصلحة العامة كي تنجح التجربة، ولا مفر من أن تعلو مصلحة الأمة على كل مصلحة وقتية وزمنية وظرفية، فالأمة تعيش في صراع ميلاد عهد جديد، سيقوده المصريون، وتحديدا التيار الإسلامي وخصوصا جماعة الإخوان المسلمين! لهذا ثمة ملفات ضخمة وضعت على عاتق ورأس الرئيس، وهو اليوم محل اختبار من العالم، فكيف سيكون تعامله معها؟ فلا ينبغي أن يفكر كما كان يفكر في صلب التنظيم، وينطوي خطابه على الطاعة والأخوة والتطمين وغيرها، بل لا بد من قيادة حكيمة لواقع مر وخطير ومزمن. فماذا سيفعل الرئيس مع الملفات الكبرى الداخلية والخارجية؟ 1) الملفات الداخلية: لعل من أخطر وأهم الملفات الداخلية، هو انتشال مصر من الفقر والبؤس، فهناك كم لا بأس به من المصريين يعيشون في المقابر والعشوائيات، وأيضا، عدد لا بأس به يعيش حالة من البطالة، وقلة الحيلة والفاقة والمسكنة، وهكذا، فإن أولى الأولويات التي تسبق أي فعل سياسي آخر، تفرض على الرئيس العمل بفعالية على توفير الحياة الكريمة للمصريين، الذين يتلهفون على أن تلمس جوارحهم واقعا يستعيدون به كرامتهم وآدميتهم، قبل مجرد التفكير في رفع معنوياتهم وترطيب نفوسهم. العمل وفق الأصول الشرعية، قضية تقع في المقدمة، وتحتاج إلى عمل فكري جبار، تُجمع فيه النصوص وتغربل، وتهيئ لرؤية سياسية تمكن من الحكم بمقتضى السياسة الشرعية، وتبين كيف ينبغي للحكم أن يتأسس على أصول الشرع والعدالة! ولكن ليس قبل العمل لتوفير فرص الحياة الكريمة للشعب المصري، بحيث يدرك الناس أنه ثمة جدوى من المراهنة عوضا أن تبدو مفاتيح التجربة وبالا على الناس فتنسحب خواتيمها على الشرع والدين. ومن القضايا الحاسمة في هذا السبيل ضرورة تجاوز هيمنة دور العسكر ولو بتقليم أظافرهم، خاصة أنهم لعبوا من خلال المجلس العسكري وفلول النظام البائد في مصر لعبة قذرة بين الدستور والانتخابات، وهم اليوم يمسكون بكل مفاصل الحياة وتفاصيلها في مصر، ولن يتركوا التأثير والتدخل والنفعية، بل سيمضون في إجهاض التجربة حتى آخر رمق، ولنا في هذا تجربة ناجحة لا بد من دراستها، وهي تجربة تركيا التي استمر الجيش يتصرف فيها قرابة القرن، ثم تدريجيا استطاع أردوغان وحزبه النيل منهم بذكاء ودهاء ومكر!
الاختلاف والتباين بين الأمس واليوم: اختلف اليوم العمل السياسي اختلافا كليا عن نظيره السابق في العصور المتقدمة، فالتحرك السياسي، والعلاقات الدولية، كانت قضايا لا تحمل شيئا من التعقيد الحضاري كما اليوم، من تعدد الدول، والهيئات العالمية، و القوانين الدولية، مع ما للدول العظمى من تدخلات وفرض أجندات وتقاطع مصالح وقضايا أخرى معقدة تماما لم تكن بالأمس القريب. ولا شك أن في السياسة الشرعية منهج وعلامات ومنارات وإرشادات توجه العملية السياسية وتضبط مساراتها، إذ ثمة اختلاف في طبيعة الدولة، بين الماضي والحاضر، وبالتالي اختلاف في الوقائع والأحداث، لهذا نقول أنه ينبغي الاسترشاد لا التقليد، فلكلٍ واقعه، ولكلٍ فقهه وفهمه. وأذكر أن أوغلو وزير خارجية تركيا، في كتابه العمق الاستراتيجي كان يشرك الجامعات في اتخاذ القرار مع مجلس النواب، لأنها شريحة مثقفة وكبيرة. لهذا كان لزاما النظر الجاد في ملف توسيع الدائرة الشعبية والحريات والممارسات الديمقراطية الصحيحة، فهناك أحزاب ممثلة في مصر، وهناك نقابات وجمعيات بل هناك مراكز فكرية وسياسية لها باعها الطويل في القضية الفكرية والسياسية، فلا ينبغي تهميش دورها، ولا الانفراد بالرأي، خاصة أن الرئيس اليوم يمثل جماعة عريقة لها تاريخها في العالم، فإقصاء الآخرين والحد من حريات الناس، وتضييق دائرة المشاركة السياسية وقصرها على فئة دون فئة سيحرق الإخوان أولا والإسلاميين ثانيا! وعليه فنحن أمام تحد كبير: إما أن نتقاسم العمل السياسي والتنموي مع الآخرين، ونوسع المشاركة الشعبية، وإما أن يحكم علينا بالفشل وتبديد التجربة الإسلامية المتربص بها. ثم لا بد تقنين العمل السياسي وتفعيله من خلال إشراك القوى والأحزاب العاملة، وليس من خلال الأفراد، وأن يُعْمَل على إخراجها من إطار المعارضة الصورية إلى إطار المعارضة الفاعلة في الحكم، وهكذا تثبت مصر أن التجربة الإسلامية سباقة في ترقية العمل السياسي بحيث يكون إيجابيا سواء من قبل أهل الحكم أو أهل المعارضة. وهذا يوجب على الحركة الإسلامية الابتعاد عن الحساسية المفرطة سلبا ضد الآخرين، فللجميع الحق في العيش والحوار والانتخاب والعيش الكريم، بدلا من الإقصاء الذي سيفضي إلى تشكيل أحزاب وتجمعات مناهضة للعمل الثوري والديمقراطي برمته. ولعل الرئيس المنتخب، د. محمد مرسي، يدرك أكثر من غيره أنه ما كان ليصل إلى الحكم لولا المشاركة الشعبية الفاعلة التي تجاوزت كل القوى السياسية بما فيها جماعة الإخوان المسلمين، فكيف يمكن تجاهل هذه الفاعلية السياسية الشعبية أو إقصائها أو التنكر لها؟ ولدينا في التاريخ وفي سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم الخبر اليقين، وخاصة في وثيقة المدينة التي جعل اليهود والمسلمين أمة واحدة لهم ما لهم وعليهم ما عليهم! ثم في استشارة النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بل استشار أم سلمة رضي الله عنها في الحادثة المعلومة وهو النبي المعصوم، بل إن ابن مسعود رضي الله عنه في حادثة الستة كان يستشير حتى النساء، في أمر من أعظم الأمور، وهو الاستخلاف! إذن التاريخ والسيرة وواقع اليوم يحتمون توسيع المشاركة السياسية، وتقسيم العمل السياسي بين الجميع من العاملين والممثلين في الساحة المصرية، بل نقول حتى الفلول والمدافعين عن النظام البائد لهم الحق في العيش وفي الحياة السياسية. 2) الملفات الخارجية: تحدثنا عن بعض الملفات الداخلية المطروحة على طاولة الرئيس، التي نرى أنها تستحق إيلائها الأولوية القصوى، باعتبارها مفتاح الثقة الذي يملكه الشعب! وما من شك أن فترة الأربع سنوات ليست بكافية لحل هذه المعضلات ولا للحكم على الرئيس في دولة بحجم مصر تئن تحت ثقل عقود من الاستبداد والدمار الذي لحق بكافة قطاعاتها، ولكنها مؤشرات، في قدرة الرجل على الحل، وعلى التعايش مع الوضع السياسي، مع وجود بعض المؤشرات على الصلاح الذاتي التي لا دخل لها في العملية السياسية، كمثل الخطاب الوعظي أو المحافظة على الصلوات، فللسياسة مجالها الآخر الذي ينتظره الشعب والعالم! لكن لا بد لنا من التذكير بأن مصر هي بؤرة العالم العربي، وأن مكانتها، وإن اختلت في العقود الماضية، واستطاع الغرب جرها لمحيطه، إلا أنها تبقى اليوم محط اهتمامه، وخوفه من انفلاتها من قبضته، وتسلم الإسلاميين زمام الأمور مع تقليص قدرة الجيش الذي هو بدوره ليس متصالحا مع الغرب تماما! لذا فإن مصر معنية، بداية، بتوطيد توطيد علاقاتها وتمتين أواصرها مع الشقيقات العربيات، مع تغيير استراتيجيتها في رفع وعي الأمة، وفي تدشين خطاب سياسي، يلائم الحالة الثورية في البلدان العربية، فالعرب متعطشون لرؤية الوجه الآخر لمصر، الوجه الفكري والسياسي والثقافي الثوري، فقد مللنا من ذلك الوجه المرقع والملفع بسواد الفساد والليالي الحمراء والفسق الخنا! من حق الأمة على مصر، أن تدشن عصر النهضة، عبر إعادة اللحمة إلى العالم العربي كوحدة واحدة، ومحاولة الارتباط السياسي، خاصة مع جيرانها كليبيا والسودان والسعودية وغيرها. ومن رحم هذه اللحمة الثورية تنطلق مصر، ومعها الأمة العربية، في فرز الملفات الشائكة في العلاقات الدولية، خاصة مع إسرائيل والغرب والولايات المتحدة. فحذار أن تنفرد مصر بالمواجهة أو بالقرار دون حماية ظهرها، بإشراك الأمة في قرارها، وأن تؤهل الشعب المصري للتدخل في القرار السياسي المصيري. وحتى فتح أو غلق العلاقات مع إيران وروسيا والصين وغيرها، لا ينبغي النظر إليها من زاوية قطرية ضيقة لا تقوى مصر عليها منفردة، وهذا يعني أن مصر معنية اليوم أكثر من أي وقت مضى بإعادة اكتشاف محيطها وثقلها ووزنها الذي طالما رحبت به الأمة. فهل بمقدور الرئيس إدارة كل هذه الملفات؟ وهل سيتجاوز عقبات الثورة المضادة التي تطحن الأخضر واليابس في مصر؟ نسأل الله له العون والتوفيق!