إن قصر أزمة الصحافة في بلادنا علي إهمال الالتزام بقوانين العمل التقليدية وتعنت هنا أو هناك يتعرض له زملاء لأسباب غير مقنعة وظيفياً أو مهنياً أو واقعة ضرب كاتب بسبب آراءه يعد ابتساراً في التناول وابتعاداً بالمناقشات عن جوهريات المشكلة وأسبابها الحقيقية وهو طرح يضر كثيراً ويفيد فقط أصحاب المصالح المريبة التي تحلقت حول الصحافة بصفة خاصة والإعلام بصفة عامة وأفرزت ممارسات تعود إلي بداية الستينيات حيث اتخذ واحد من أكثر القرارات ضرراً بالصحافة المصرية علي الإطلاق ألا وهو قرار التأميم، وإذا شئنا الدقة فإن كل ما نشكو منه الآن يعود إلي هذا القرار الذي وإن لم يقتصر علي الصحافة والإعلام وحدهما إلا أنه في هذا المجال كان ورا ء كل المشكلات والأزمات التي يعيشها الإعلام الوطني الآن ومنذ زمن طويل. وبعيداً عن الايديولوجيات وسرد المبررات التي يمكن ان يدفع بها أي طرف للدفاع عن أو الهجوم علي التأميم ومبرراته ثم ما جري بعد ذلك حتي هذه اللحظة فإن هناك حقائق علي الأرض لا يمكن نكرانها أو الدفاع عنها، فمن يمكنه أن يدافع عن فقدان الصحافة المصرية لريادتها التي حافظت عليها في المنطقة والعالم منذ ستينيات القرن التاسع عشر بل وأصبحت صحفنا للأسف الشديد تأتي في مراتب متأخرة في استبيانات الأهمية والتحقق من الانتشار كما أصبحت تنقل بصورة يومية عن صحف ولدت قبل سنوات معدودة وأصبح ما ينقل عنها في الخارج قليلاً ونادراً ويتم بمبادرات ذاتية ويكاد يقتصر علي ما يكتبه نفر من كتاب الأعمدة، آخر ذخائر الصحافة الوطنية التي تجاهد للمحافظة عليها. إن مظاهر تخلف صحفنا إن شئنا المكاشفة تتجلي في العديد من السلوكيات اليومية ليس أهمها انصراف الناس عن متابعتها كما توضح أرقام التوزيع رغم ما يحيطها من سياج ربما لمداراة الفشل والتعتيم عليه، وللإنصاف فإن فقدان الأهمية وتراجع التوزيع لم يعد مقصوراً علي الصحف التي تسمي بالقومية أي المملوكة للدولة بل هو مرض أصاب حتي التجارب المحدودة للصحف المستقلة والحزبية رغم اختلاف توجهاتها واتساع سقوف الحرية فيما تتناوله من قضايا وموضوعات. أما بالنسبة للإعلام المرئي والمسموع فإن "حواديت تخلفاته" عن مواكبة الأحداث وسذاجة طروحاته تنطق بها المناقشات العامة والخاصة كما تنطق بها سلوكيات المشاهدة التي تحولت كما يعلم الجميع نحو محطات حديثة الولادة وربما مبتسرة.. فقط لكونها تعتمد مبدأ الجدة والحداثة والتغطية الفعالة وهو عمود العمل الإعلامي وذروة قمته منذ الأزل. وقد اقترن أداؤها بلا شك في اعتماد مبدأ الكفاءة والفعالية فكان أن سحبت البساط خلال سنوات قليلة من الإعلام الوطني العجوز والذي تخلي عبر العقود الأربعة الماضية عن أساسيات العمل الإعلامي وعلي قمته تكوين الكفاءات ورعايتها بالتدريب والمال وعاشت المهنة علي أمجاد الماضي. تلك الأمجاد التي نجحت بلا شك في السير بصحفنا رغم مشكلاتها المتعددة والفاضحة سنوات قبل أن يكتشف الناس هنا وفي المنطقة أن هناك جديداً طرأ يقدم مادته بشكل أفضل وأكثر فعالية رغم ما يحيط بنشأته من شكوك. لقد استكانت بعض القيادات الإعلامية والصحفية إلي مبرر انخفاض سقف الحريات واقترانها بسياسات الدولة لمداراة فشل مهني ومالي وإداري مستفحل واستعذبت حجة ممجوجة رغم أن كل من يعمل في العمل الإعلامي أو يرتبط به يعلم أنه ما من مطبوعة علي الأرض أو فضائية في السماء إلا ووراءها مصالح ومؤسسات وأفراد يتعين أن تدافع عنهم وتتحدث باسمهم وتخدم أهدافهم رغم أن الكل لأسباب مهنية يدعي الاستقلال!! إن الارتكان لحجة ملكية الدولة أو مؤسسات بعينها للصحف ووسائل الإعلام لم يعد ينفع علي الاطلاق في هذا الزمن للدفاع عن تردي الأداء وتخلف العمل وتراجع العوائد المالية وتحلل البنيان الاقتصادي لمؤسسات ولدت عملاقة أو صارت عملاقة عقوداً من الزمان قبل أن تطولها قرارات التأميم. ولمن يري أن التأميم حقبة وانتهت نقول أن التأميم حالة ذهنية ووظيفية وهو منهج في العمل وفي الاختيار وهو أيضاً منهج في الإدارة. وهو بهذا المعني حالة قائمة بل وجري تصديرها من الصحف المؤممة إلي الصحف الحزبية والمستقلة، لأن الصحافة كسوق يتفاعل بداخلها الأفكار ومناهج العمل والإدارة والتكوينات الذهنية والمحاكاة، وهكذا انتشرت أمراض تسلط الإدارة وضعف المبادأة وخلط الإعلان بالتحرير وقبل كل ذلك وبعده الاستهتار بالبعد المهني في تكوين المحررين بدءاً من أسلوب الاختيار عند التعيين مروراً بالتدريب الذي لا يتم وصولاً بسنوات العمل بعد المعاش في غياب معايير تقييم الأداء اليومي والمنتظم علي مستوي الصحيفة أو الصحفيين.