لا تكتفي الإدارة الأمريكية بمحاولة فرض هيمنتها علي "الدنيا"، وانما تسعي أيضاً إلي بسط وصايتها علي "الدين". ففي الأربعاء الماضي اصدرت وزارة الخارجية الأمريكية تقريرها السنوي عن الحرية الدينية.. ليس في أمريكا وانما في العالم بأسره. وتعمد وزير الخارجية كولن باول أن يقدم هذا التقرير بكلمات رنانة لا تخلو من المبالغة الممجوجة التي تعكس التصور الإمبراطوري الأمريكي المتغطرس للعالم. حيث امتلك الجرأة لان يقول دون أن يهتز له جفن أن "التزام أمريكا بالحرية الدينية أقدم من الأمة الأمريكية ذاتها" وان "أمريكا تدافع عن الحرية الدينية داخل حدودها وفي سائر أنحاء العالم". وبناء علي هذا الإدعاء الذي لا أساس له أعطت الإدارة الأمريكية لنفسها الحق في الوصاية علي خلق الله، وان تعطي لهذه الدولة شهادة بحسن السير والسلوك الديني وتشهر بطاقة الانذار الحمراء في وجه تلك الدولة، كما لو كانت محكمة تفتيش علي غرار تلك المحاكم التي عرفتها البشرية في عصور الظلام والتي كانت تعطي لنفسها الحق في منح صكوك الغفران لمن تشاء وتصب اللعنات علي من تشاء. ولعل أكبر دليل علي تهافت ادعاءات الإدارة الأمريكية بهذا الصدد، وخاصة فيما يتعلق بالزعم بأن "التزام أمريكا بالحرية الدينية أقدم من الأمة الأمريكية ذاتها"، هو ان الكونجرس لم يقر قانون الحرية الدينية إلا عام ،1998 أي منذ ست سنوات فقط. ولهذا فإن التقرير الذي قدمه كولن باول وعرضه السفير جون هانفورد يوم الأربعاء الماضي هو التقرير السنوي السادس وليس أكثر. ورقم "ستة" الذي يحمله هذا التقرير يعني من جهة أخري أنه سابق علي زلزال 11 سبتمبر 2001 الذي يحلو للكثيرين أن يبرروا به الغطرسة الأمريكية الحالية. وبصرف النظر عن سخافة ادعاءات الإدارة الأمريكية بالوصاية علي الشئون الدينية في العالم، وهي نفس سخافة المزاعم التي تبرر بها نفس الإدارة انتحالها لوظيفة رجل الشرطة العالمي، فإن التقرير السنوي السادس للحرية الدينية في العالم يمثل في حد ذاته أكبر ادانة لمنطق الوصاية الأمريكي. أولاً: في عرضه للتقرير قال السفير هانفورد بالنص "ان تاريخنا الخاص أي التاريخ الأمريكي لم يكن متسما بالكمال، كما أننا لا نستطيع ادعاء هذه العصمة اليوم". هذا الاعتراف ينسف الأسس التي ترتكز عليها الإدارة الأمريكية في القيام بدور "الواعظ" للبشرية. وإذا تغاضينا عن إساءة استخدام الدين في الولاياتالمتحدة تاريخيا، بحيث شهدت الساحة الأمريكية اسوأ الممارسات للرق والعبودية، ثم العنصرية الكريهة بأحط أشكالها وأكثرها غلظة وفظاظة ووحشية، سنجد شهادات كثيرة جدا لمنظمات حقوق الإنسان أمريكية تتهم الإدارة الأمريكية الحالية بالذات باضطهاد الاقليات الدينية الإسلامية وترويع المسلمين الأمريكيين أو المسلمين المقيمين بالولاياتالمتحدة بصورة شرعية. ومع ذلك يحلو لهذه الإدارة ان تلعب دور "الواعظ" للبشرية والمدافع عن الحرية الدينية في أي مكان علي سطح الكرة الأرضية! ثانياً: في وضعه لقائمة الدول التي يسميها بالدول التي تمثل مصدر "قلق خاص" لعام 2004 نلاحظ ان التقرير حذف العراق من هذه القائمة، بعد أن كان قد دأب علي وضعه علي رأس تلك القائمة ذاتها في الماضي بحجة قمع نظام الرئيس صدام حسين للمعتقدات والممارسات الدينية. وعلي النقيض من ذلك أعطي التقرير شهادة حسن سير وسلوك لحكومة إياد علاوي قائلا انها "تعمل علي حماية الحرية الدينية ولذلك فإن العراق لم يعد مصدر قلق خاص". وليس المهم الآن تقييم الحالة الدينية في العراق ابان حكم الرئيس صدام حسين.. لكن المهم حقا هو فحص شهادة البراءة التي أعطاها التقرير الأمريكي لحكومة الدكتور اياد علاوي. فالدماء التي سالت علي أعتاب الصحن الحيدري الذي يضم ضريح الامام علي بن أبي طالب لم تجف بعد، وانتهاك حرمات العتبات المقدسة الشيعية من جانب قوات الاحتلال الأمريكية وزعانفها العراقية معروض بالصوت والصورة وبالبث المباشر علي الهواء في فضائيات الشرق والغرب. ولا يقل عن ذلك اقتحام مساجد السنة في الفلوجة وبغداد وغيرهما والحاق الأذي برجال الدين من كل المذاهب. هذه الحقائق المروعة أسقطها التقرير من حساباته التي زعم أنها موضوعية ودقيقة وصارمة وداس عليها بالحذاء وأعطي حكومة الدكتور اياد علاوي شهادة براءة لدخول الجنة الأمريكية! ثالثاً: أعاد التقرير تصنيف الدول الخمس التي وصفها تقرير العام الماضي بأنها "مصدر قلق خاص"، وهي الصين وكوريا الشمالية وبورما وإيران والسودان.