أحبها منذ أن تفتحت عيناي علي الحياة كان حباً غامضاً يسري في جسد الصبي ولا يعرف كنهه.. ثم استقام عودي واشتاق قلبي بين ضلوعي للحب وكنت انتظر البنت التي حركت مشاعري علي مقربة من مدرستها وعندما كانت تهل بطلتها، كنت أسير خلفها في صمت، فلم استطع البوح.. كان لساني عاجزاً عن التفسير أو التعبير حتي التفتت فجأة خلفها إذ أحسست بوقع أقدامي المرتبكة فابتسمت لي وتشجعت وكلمتها ودسست في يدها ورقة تضم سطور إعجاب بها ورقة كنت قد أعددتها لو استطعت أن أفك عقدة لساني.. ضربت لي موعداً في اليوم التالي، لكني رغم أشواق بسعة الأفق لم أذهب لأن مدرستي قررت أن نخرج في مظاهرة ونفوت علي مدرسة الصنايع تشترك معانا ثم نمر علي مدرسة الأقباط الثانوية لنهتف جميعاً باسم "مصر".. أدهشني للأمانة موقفي ولكن يبدو أن استجابتي للتظاهر كانت أقوي من استجابتي لمشاعري العاطفية.. يومئذ لم اعتذر للفتاة فأنا لا أعرف تليفونها ولم نكن قد دخلنا عصر الموبيلات فقد كانت تليفونات البيوت تعاني من وصول الحرارة لها.. لكن الحرارة الوحيدة التي سيطرت علي وخطفتني من عواطفي هي التظاهر مع مدرستي وأنا أهتف "اليوم حرام فيه العلم" و"مصر والسودان لا ينفصلان". كنت أتلفح في المظاهرات بالعلم المصري الأخضر ذي النجوم وكنت أظن أن هذا يحميني من اعتداء الهجانة علي المظاهرة ولكن "الحدأة بيه" حكمدار الأمن في بني سويف أفهمني فيما بعد أن الأمر سيان سواء تلفحت بالعلم أو لا، وقد أخذت نصيبي من كرابيج الهجانة وعلي ظهري.. المهم اشتقت للفتاة التي عاتبتني عندما رأتني، فلما قلت لها أنا كنت مشغولا في مظاهرة، ظنت أني أهذي من حمي مفاجئة.. لكن في نهاية السنة، تقابلنا في منتزه عمومي أشهر أماكن لقاء الأحبة ورويت لها كيفي أن رجلاً بقامة المحامي الكبير الأستاذ يواقيم غبريال "عضو كتابة دستور 23" زرع في حب البلد، فقد كان يكرم ابنه زميلا لي في مدرسة بني سويف الأميرية.. وبسبب اهتمام "يواقيم بيه" كما ينادونه أنه عرف من ابنه أني أنشر صحيفة حائط أكتبها بنفسي من الجلدة للجلدة وأن ناظر المدرسة سامي أفندي سليمان يراجعها بنفسه قبل أن تلصق علي الحائط وأنه حذف منها بعض آراء.. وقلت لها، إن من بين براويز جريدة الحائط عنوان "الخير لمصر" يقدم لي زملائي التلامذة مقترحات لننشرها حتي بأفكارهم البريئة وكلها تبغي الخير لبلدنا. مرت الأيام وصرنا نتقابل أنا وعزة "وهذا اسمها" وإن كنت أكسر العين عندما أناديها وكان هذا يروق لها.. وسافرت إلي مصر للجامعة "كلية الآداب" لألتحق بها وتعرفت في جمعية الشبان المسيحية علي المفكر المصري العظيم سلامة موسي الذي شربت منه حب مصر سلوكا لا كلاما.. وفي مرحلة النضج صرت أشعر أن المظاهرات طويلة التظاهر هي إهدار لطاقة تحتاجها البلد خصوصا إذا كان اقتصادها في حالة "تدني" وإخفاق.. اكتشفت أن العمل هو أهم معزوفة في المجتمع وإن الشعوب الناهضة تظاهرت قليلا واشتغلت كثيرا.. وعندما أقابل الآن شابا من الثوار أقول له: أحببت مصر بالتاريخ والجغرافيا.. أحببتها ربما قبلك فأنا حبيبها وربما جئت أيضاً بعدك.