قرار الانسحاب المفاجئ الدكتور محمد البرادعي، من سباق الترشح لانتخابات رئاسة الجمهورية - الذي لم يبدأ بعد - كان بسبب أن ضميره لا يسمح له بالترشح للرئاسة أو لأي منصب رسمي آخر، إلا في إطار نظام ديمقراطي حقيقي يأخذ من الديمقراطية جوهرها وليس فقط شكلها. ورغم احترامي الشديد للدكتور البرادعي، كشخصية وطنية ودولية لها ثقلها في الداخل والخارج، ومع اعترافي بفضله في تحريك المياه السياسية الراكدة في مصر قبل ثورة يناير، ووقوفه في وجه النظام السابق في قمة "عنفوانه"، إلا أن إعلانه الانسحاب من سباق الترشح للرئاسة، وقبل شهور من فتح باب الترشح رسميا، سحب من رصيده السياسي الكثير، ووضع علامات استفهام حول موقفه الغامض والمفاجئ، ودوافع اتخاذه هذا القرار في التوقيت الحالي، وبعد يوم واحد من إعلان نتيجة الجولة الأخيرة من الانتخابات التشريعية، وإتمام العملية الانتخابية، وقبل عشرة أيام من الاحتفال بالعيد الأول لثورة يناير . ولا أعرف لماذا لم ينتظر الدكتور البرادعي أياما كي يحتفل مع "الثوار" بالعيد الأول للثورة وسقوط النظام السابق؟ ويعلن انسحابه، خاصة أنه يعتبر العقل المفجر لتلك الثورة، بعد أن أحدث حراكا سياسيا في مصر، وخاض معركة سياسية قوية ضد النظام البائد، وتعرض لحملة تشويه منظمة من "أبواق النظام" خاصة الصحفيين والإعلاميين المأجورين، والذين أوهموا الشعب المصري أن البرادعي هو العدو الأول لمصر والمصريين، ولكنه لم يتأثر بتلك الأكاذيب والافتراءت، وظل يناضل وهو رافع لواء الديمقراطية والتغيير في الداخل والخارج، وشارك في ثورة يناير المباركة، مما أعطي الثورة زخما كبيرا، بعد أن أسهم في وضع لبنتها الأولي . ولماذا لم ينتظر البرادعي انعقاد البرلمان الجديد، والذي سيعقد جلسته الأولي بعد أسبوع، ولماذ لم يتمهل قليلا حتي يشارك في "المعركة" السياسية الخاصة بإعداد الدستور الجديد الذي سيحدد مستقبل الحياة السياسية والاقتصادية في مصر خلال الفترة المقبلة؟ ولماذا تعجل وأعلن انسحابه قبل فتح باب الترشح لرئاسة الجمهورية رسميا بعد إعداد الدستور الجديد، حتي يكون هناك منطق وحجة في قراره . قد يكون البرادعي قد استفاد من درس الانتخابات البرلمانية، وقرر الانسحاب المبكر من سباق الرئاسة، خاصة بعد حصول التيار الإسلامي علي نسبة عالية من المقاعد، وأيقن أنه لن يحصل علي الأصوات التي ستؤهله للوصول إلي مقعد الرئاسة، بعد خلافه العلني مع ذلك التيار، وعدم إعلان التيار الليبرالي صراحة دعمه في الانتخابات الرئاسية، سواء حزب الوفد أو المصريين الاحرار، كما أن هناك تحفظات شديدة عليه من الناصريين واليساريين، بسبب علاقاته المميزة مع أمريكا، وعدم تبنيه بشكل واضح مبدأ العدالة الاجتماعية، وهو أحد المبادئ التي نادت بها ثورة يناير . الحقيقة أن قرار البرادعي في هذا التوقيت قرار مريب، ويحتاج إلي تفسير بعيد عن نظرية المؤامرة، لأن القرار يأتي قبل الاحتفال بثورة يناير، والتي هدد البعض بأنها تكون ثورة ثانية غير سلمية، من اجل القصاص لدماء الشهداء، وستكون ثورة تصحيح، من أجل تنفيذ كل مطالب الثوار، وذلك بعد إسقاط حكم العسكر وتسليم البلاد إلي سلطة مدنية وتشكيل حكومة "ثورة" جديدة، بدلا من حكومة الجنزوري . لقد توقعت أن يضرب الدكتور محمد البرادعي "كرسي في الكلوب" ويفسد المكتسبات السياسية التي تحققت بعد الثورة، ولاسيما بعد نجاح العملية الانتخابية النزيهة - إلا قليلا - وتشكيل برلمان قوي، لم يات علي هوي "البرادعي" وأيقن أن الوقت الحالي "ليس وقته" بعد أن هرع الامريكان إلي الإخوان، وقبولهم نتيجة الانتخابات بشهادة جيمي كارتر، ووليام بيرنز مساعد وزيرة الخارجية الامريكية، والذي ذهب بنفسه لتقديم التهنئة للإخوان بالفوز الكاسح في الانتخابات بمقرهم في المقطم! لم يكن انسحاب البرادعي هو الانسحاب السياسي الأول بعد الثورة، فقد اعتذر عن قبوله رئاسة الوزارة بعد أن فرض شروطا صعبة أمام المجلس العسكري لقبوله المهمة، كما أنه رفض المشاركة في عضوية المجلس الاستشاري، ثم اخيرا أعلن انسحابه من خوض سباق الرئاسة، لأنه أراد أن يترشح في إطار نظام ديمقراطي حقيقي وليس شكليا، رغم أننا مازلنا نبني ذلك النظام في الوقت الحالي، ومن الطبيعي أنه لم يكتمل بعد، بل أصدر بيانا تحريضيا ضد حكم العسكر، وكانت صياغته أشبه بالمنشور السياسي المعارض الذي يدعو الشباب إلي القيام بما يشبه الثورة الثانية