كلما لمحت صورة لواحد أو واحدة من الشهداء سبح قلبي في حزن أسود، وكانت أبشع الدموع هي علي ذلك الشباب السكندري الواقف في منتصف الشارع فاتحا صدره صارخا في وجه من يوجه طلقات الرصاص صارخا "اقتلني"، ولم يخيب القاتل ظنه فأرداه قتيلا وبين دموعي تذكرت عبدالحميد شتا المتفوق في العلوم السياسية والذي قام بشنق نفسه عندما رفضوا إلحاقه بوزارة الخارجية لأن مستواه الاسري غير لائق. تذكرت واحدا من السفراء كان ابن صاحب دكان خردوات وشارك في ثورة يوليو وعندما تمرد علي جمال عبد الناصر عام 1954 أحاله إلي الاستيداع ثم استطاع الالتحاق بالخارجية عبر امتحاناتها القاسية ونجح وصار سفيرا لامعا امتلأ بالحنان والرحمة علي الضعاف، وإن كانت زوجته ظلت تدعي انها بنت باشوات علي الرغم من أني رأيت والدتها التي كانت تتاجر في المسلي والبيض وتدور وعلي رأسها "طشت" متوسط الاتساع يمتلئ بأقراص الزبد وتحيطه أكياس البيض المدفوق في قشر الخشب كيلا ينكسر، وكانت البنت ترتدي الملاية اللف السكندرية وكعبها يدق علي الارض ليعزف سمفونية من الشوق إلي الارتواء وما ان تقدم لها ابن صاحب محل الخردوات حتي طقت الزغارية في البيت الحجري الواقع بالمكس، وانتقلت البنت من حي المكس إلي القاهرة، وانتقلت الأم من بعد قيام الثورة إلي شقة لا بأس بها في حي جليم. والتقيت بالسفير أثناء رحلاتي إلي الخارج لأجد زوجته بنت البلد الحلوة وقد ارتدت أفخر الثياب وأتقنت اللغة الفرنسية والانجليزية، وصار بيتهما مقصدا لكل الضعاف، ولكن عيونها لم تتوقف يوما عن سؤالي كي لا احكي حكاية الأم التي كانت تبيع الزبدة والبيض، ولكن السفير لم يتوقف يوما عن ذكر والده بكل خير الذي اقتطع الجنيهات كي يعلمه ويلحقه بالكلية الحربية ليتخرج ويشارك في البداية بثوار يوليو وكيف اختلف معهم فالتحق بالخارجية. تدور الأيام لأجد اسم السفير في صفحة الوفيات، فبكيت تأثرا لطيبته وجمال أخلاقه، ولكن الدموع توقفت لأجد الضحكة علي فمي حين قرأت وصف زوجته بانها ابنة واحد من الباشوات وأن جدها لوالدتها هو أيضا واحد من باشوات ما قبل الثورة، تذكرت خطواتها في الملاية البلدي، وترحمت علي زوجها وعلي عبدالحميد شتا الذي لم تقبله الخارجية المصرية لأنه من البسطاء. وهمست لصور شهداء التحرير قائلا: "ها أنتم تعيدون لأي واحد من البسطاء أن يكون في أي موقع متقدم لخدمة بلاده حتي ولو أدعت زوجته من بعد ذلك بأنها سليلة الباشوات". منير عامر