يظل الشاغل الأعظم لفكر الاقتصاديين وما يسيطر علي اهتماماتهم هو السعي دائما الي زيادة دخول افراد المجتمع حتي يمكن تجاوز حد الكفاف للمستويات الدنيا وتوسيع الانضمام لطبقة مستوي الكفاية ومد قاعدته ثم ينبغي أخيرا التطلع الي تحقيق مجتمع الرفاهية وهذا الهدف تتم ترجمته والتعبير عنه في صورة السعي نحو تحقيق معدلات نمو سنوية متزايدة من دخول هؤلاء الأفراد أو ما يطلق عليه بالدخل القومي. وقد استقر الأمر علي ان محركات النمو لأي اقتصاد حر والذي يقاس عليه زيادة الدخول انما ترتكز علي محاور اساسية ثلاثة متلازمة ومتشابكة وهي: الانفاق ثم الادخار فالاستثمار والباحث في هذه المحاور الثلاثة سيجد ان هناك معامل ارتباط بين كل اثنين من هذه المفردات الثلاث يحكم سلوك هذه المحددات واتجاهاتها والتي قد تكون طردية متوافقة أو قد تكون عكسية مختلفة. فما بين الانفاق للاستهلاك وبين الادخار هو علاقات ضدية فكلاهما يتنافس علي مساحة الدخل المحقق وان كانت الأولوية دائما تترك للانفاق علي سبل المعيشة لكي يحقق مآربه حتي الاشباع والفضلة المتبقية تترك للادخار وبالتالي يمكن القول ان دالة كل من الانفاق والادخار هنا ستكون بمقدار ما يتحقق من دخل وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فإنه من المهم ان نشير الي ان سعر الفائدة ليس له أي تأثير بالمرة علي زيادة حجم الادخار أو نقصانه فالمؤثر الأوحد هنا هو حجم الدخل المتوافر وكذلك المستوي الاجتماعي للمدخر فكلما كان المدخر ينتمي للمستوي الأعلي كان حجم مدخراته أكبر والعكس صحيح. أما ما بين الانفاق الاستهلاكي وبين النشاط الاستثماري فعلاقات توافق وترابط إيجابي فكلما زاد الإنفاق في صورة طلب علي شراء المنتجات والخدمات انفتحت معه شهية الاستثمار بالزيادة في الانفاق الاستثماري أملا في الحصول علي فرص ربحية اكثر يتيحها السوق وفي الاتجاه المعاكس فإن هذا الانفاق للاستهلاك عندما يجنح نحو الانخفاض فإن السوق يستجيب سريعا وينكمش وتقل فرص الاستثمار ويسود التشاؤم نفوس المستثمرين وهنا يبدو ظاهريا ان الاستثمار هو الذي مفصاع لأوامر الطلب والانفاق علي الشراء ولكن ما نعتقده قد يكون العكس تماما فإن مصدر الانفاق يعتمد علي مقدار الدخل المحقق وهذا الأخير لا يتحقق إلا من خلال مشروعات الاستثمار وعلي هذا فإن المرء لن ينفق إلا في حدود دخله وبالتالي يصبح الدخل المحقق هو الذي يوجد الطلب القادر علي الشراء والانفاق. والعلاقة بين الادخار وبين الاستثمار علاقة طردية متوازية بتأثير الادخار فلن يكون هناك استثمار دون توافر أموال مدخرة معروضة للاستثمار وفي حالة عدم توافر المدخرات المحلية وفي ظل عدم قدرة المدخرات الاجنبية الواردة علي سد الثغرة القائمة لتلبية حاجة المستثمرين فإن الاستثمار سينكمش وقد يتجمد مهما كانت الفرص السانحة أمامه وسينجم عن ذلك انخفاض اجمالي الدخل فتقل القدرة علي الادخار ثانية فيقل الاستثمار بالتالي وهكذا دواليك. ولعل السؤال الذي يتبادر الي الاذهان عند هذا المنعطف هو من أين نبدأ؟ وأي باب نطرق لكي نرفع من معدل نمو الدخول وبالتالي نرفع مستويات المعيشة القائمة هل هو باب الانفاق الاستهلاكي أم باب الادخار أم أخيرا باب الاستثمار؟ لقد اتفق القائمون علي وضع كل من السياسة المالية والسياسة النقدية علي طرق باب الانفاق من خلال وضع حزمة محفزات لكل من المستهلك ورجل الاعمال وتحت لواء الانفاق العام باعتبار ذلك هو الوسيلة الأمثل فكان ان لجأوا الي منفذ الانفاق الحكومي الاستثماري كقائد لهذه المسيرة وذلك من خلال التمويل بالعجز علي حساب الموازنة العامة ليزيد بذلك العجز بين بنود الايرادات المتحصل عليها وبين بنود المصروفات التي يتم انفاقها من 5.6% من اجمالي الناتج القومي المحلي للعام المالي 2008/2009 ليصبح في مشروع موازنة عام 2009/2010 بنسبة 8% من اجمالي هذا الناتج وبقيمة قدرها 94 مليار جنيه وهو الرقم الأضخم في تاريخ الموازنة الحكومية. وتجدر الاشارة هنا الي ان اتفاقية ماستريخت بشأن قيام الاتحاد الاوروبي قد حددت نسبة العجز في موازنة أي دولة اوروبية ترغب في الانضمام الي الاتحاد بألا تزيد علي 3% من حجم ناتجها المحلي الاجمالي. أما مخططو السياسة النقدية فقد شجعوا البنوك الي آخر المدي في التوسع في ائتمان التجزئة كوسيلة لزيادة مقدرة الافراد علي التوسع في الانفاق الاستهلاكي ولاشك ان ذلك الاجراء من شأنه استهداف دخول الافراد حتي آخر رمق حتي ولو كان ذلك علي حساب الادخار الذي يعتبر الرئة التمويلية لقيام المشروعات كما قامت رغبة منها في تحفيز رجال الأعمال علي الاستثمار بتخفيض سعر الفائدة المعلن الي ادني مستوياته حتي يمكن تقليل عنصر تكلفة التمويل وبالتالي تشجيع مجال الاستثمار الي أبعد مدي وحتي ولو كانت تكلفة هذا العنصر تقل ولا تزيد علي 6% فقط من تكلفة المنتج النهائي للسلعة.