ليس عنوان مقالي فيلما وثائقيا عن تركيا التي نهضت من كبوتها خلال سنوات، وليس مسرحية عبثية ولا تجريبية، إنما هو يطرح قضية تربوية كشفت عن ازدواجية المعايير، وربما تمس كل بيت، مصري أو عربي، حفيدي في مدرسة خاصة تعني باللغات الأجنبية وتعلم الطفل "كيف يفكر"، ولست وحيد زماني الذي أشار علي ابنتي حنان وزوجها المحترم رجل الأعمال الشاب حليم رمزي بإدخال حفيدي شريف إلي مدرسة خاصة هروبا من تدني التعليم في المدرسة المصرية الحكومية، فقد سبقني الدكتور فتحي سرور حين تعمد إدخال أحفاده مدرسة خاصة، د. فتحي سرور هو رئيس مجلس الشعب، وكان يوما ما وزيرا للتربية والتعليم، وربما يتحمل بعض مسئولية الحال الذي آل إليه التعليم في مصر. حفيدي عاد قبل بدء إجازة نصف السنة وأخبر أمه أن المدرسة بصدد رحلة إلي تركيا لمدة أسبوع، الاشتراك فيها يكلف كذا ومن يريد الالتحاق بالمجموعة المسافرة يبلغ والديه، فإذا وافقا يسارع ليقيد اسمه ويقدم جواز سفره، وحفيدي لديه جواز سفر بمفرده وربما أراد والده أن ينشئه كرجل، وهذا شيء محمود، فقد كانت حنان - وهي طفلة - مقيدة علي جواز سفر والدتها. أعرف جيدا أن السفر - كتجربة - مهم جدا لأن له فوائد أهمها الاعتماد علي النفس والإحساس المبكر بالمسئولية، وأي أب أو أم أو "جد" يتمني للحفيد أن يعتمد علي نفسه ويحس بالمسئولية، ذلك هو مني عيني كما يغني محمد نوح، وأنا شخصيا أعتبر نفسي "اتقشرت زي الموزة" حين سافرت أوروبا لأول مرة، ولم أكن طفلا بالطبع بل إن والدتي كانت ترفض رحلات نصف السنة في الأقصروأسوان، وربما كنت استريح لقرارها ولا أدري لماذا؟ ولما بدأت مشوار الكتابة كنت أكتب عن تجربة السفر في حياة الشباب أو الأطفال، وأذكر تحقيقا أجريته نشره أحمد بهاء الدين عن أطفال في مدرسة الليسيه سافروا فرنسا وقضوا أسبوعا هناك، وقابلت المدرسة التي صاحبتهم الرحلة، كيف سيطرت علي حركتهم طوال الرحلة لشعورها بالمسئولية وكيف أنها لم تر باريس من فرط ملاحقتها للأطفال "7 سنوات" أتذكر أني كتبت أقول "لقد احترمت البيوت المصرية التي أرسلت أولادها في الرحلة لأن هذه التجربة مفيدة في العمر المبكر.."، كانت قناعتي لسفر الأطفال إيجابية وكنت أشعر أن المفكر الكبير سلامة موسي يقول للشباب "سافروا" لأن لا شيء مثل السفر يصقل الشخصية خصوصا في عمر مبكر، وتمر السنون وأتزوج وأنجب ابنتي حنان التي كانت تسافر إلي بعض مناطق مصر في أتوبيسات هاشم كما أتذكر، ولم يكن هناك هذا الاختراع السحري المسمي بالموبايل في ذلك الزمن، وكنا نذهب إلي مكان التجمع لحظة السفر فلا نجد أحدا من أولياء الأمور سواي أنا وآمال العمدة - رحمها الله - فقد كنا "غدة قلق" لكننا أخفينا هذا الإحساس عن ابنتنا حنان. وذات مرة في أسوان اضطررت لأن أتحدث ترنك مع مدير الطيران المصري هناك وأتوسل له أن يرسل أحد سعاة المكتب إلي الباخرة الراسية ويسأل عن التلميذة حنان مفيد، وفعلا أرسل من يبحث في كل البواخر الراسية في أسوان عن التلميذة المذكورة ومرت الدقائق وكأنها أيام انتظار وسمعنا صوت حنان تقول "ألو.." واسترحنا من اللهاث، ودقات القلب الذي كاد ينخلع، وأعود إلي حفيدي، فلم توافق ابنتي علي سفره وكنت حائرا بين قناعتي بسفر الأولاد وأهميته التربوية وإحساسي الخاص لعدم سفر شريف حفيدي إلي استانبول فقد كنت مرتاحا لقرارها، وأؤكد أنه لو وافق والداه علي سفره لكنت في اليوم التالي في العاصمة التركية، مقيما في فندق قريب من الفندق الذي يقيم فيه حفيدي، وظللت اتساءل بشجاعة، هل نحن "موضوعيون" حين نعلن آراءنا فقط ونعاني من الازدواجية حين نكون "ذاتيين" والأمر يتعلق بنا شخصيا؟ وأغلب الأمر أننا كذلك نفسه.