أي خريج من كلية الشرطة لابد له من استيعاب قرابة عشرين ألف صفحة من مجموع صفحات المواد التي يدرسها فعلا عن العلوم العسكرية والأمنية فشهادة التخرج من كلية الشرطة هي ليسانس في الحقوق، ومن بعد ذلك يستوعب الخريج حقائق المجتمع، فيري ألعاب تزوير الحق، وألعاب بيع الباطل وحواري التفاصيل التي ينسي فيها الإنسان أنه كائن بشري ليتصرف في كثير أو قليل من الهمجية، فيقتل أو يسرق أو يمارس كل هو ضد الأخلاق ومن العجيب أن المجرم يجد علي لسانه من الكلمات ما يدافع به عن نفسه وهكذا يصبح علي ضابط الشرطة عمل يفوق قدرة الملائكة والشياطين معا أي أن يقرأ ما تحت سطح الاعترافات ويعثر علي الأدلة. وطوال عمري وأنا أشعر بأننا نظلم الشرطة بأكثر مما ننصفها، علي الرغم من أنني قمت أيام شبابي بكتابة تحقيق صحفي موثق أنهي خدمة مدير أمن بالشرقية وقام بتأجيل ترقية ضابط أفرط في ضرب فلاح حتي الموت من أجل أن يوقع علي تنازل عن نصف فدان لأسرة مطلقته ولكن هذا لم يمنع صداقة واحتراما بلا نهاية لأي ضابط شرطة يؤدي عمله وسط أشواك التضارب والتفاوت في هذا المجتمع الذي يضم خلاصة ما يمكن اعتباره "الموجز اللذيذ في حواري الجرائم". وفوجئت أثناء زياراتي المتتابعة لمكتبة الاسكندرية بشاب يتميز بدماثة الخلق هو المقدم ناجي أنس، وسمعت لأشعاره وأغنيات قام بتأليفها لمطربة يتحمس لها اسمها ندي ناجي وسمعتها في مارينا حين قدمها عمرو أديب في احدي سهرات برنامجه الشهير "القاهرة اليوم" وأعجبت بصفاء الصوت. وقدمت ندي حفلة تخصها بمكتبة الاسكندرية قال لي ناجي أنس عنها انها كانت حفلة مشهودة الزحام والاقبال ولعل شهادته مجروحة بحماسه الشديد لهذه المطربة الوليدة بحكم أنه من كتب لها كل كلمات أغنياتها وحين سألني عن رأيي قلت بمنتهي الوضوح إنها تحتاج إلي كسر لوح من الزجاج غير المرئي بينها وبين ما تنطق به من كلمات موزونة فالغناء هو حالة من التمثيل المسرحي وإن لم يدرس المطرب فن الغوص في عمق ما ينطق من كلمات لصار مجرد بهلوان مثل بهلوانات الأغاني المعاصرين الذين يتقافزون علي المسرح وفي "الفيديو كليبات" التي تتميز بعدم الاحساس بمن ينطق كلمات الأغنية حيث يحترف كثير من بهلونات الغناء التستر خلف ضجيج الموسيقي. وسمعت من ندي ناجي لحنا من توزيع عبقري موسيقي نادر الوجود هو اللواء عادل عفيفي، وهو ضابط شرطة يؤلف الموسيقي الكلاسيكية الرصينة ولولا أن الأغنية كانت بمناسبة عيد الشرطة لكان لها شأن آخر في دنيا السميعة الحقيقيين. وأعلم أن صوتا موهوبا مثل صوت ندي ناجي بنت الأسرة المتوسطة التي لا تعرف الغناء في ليالي الأمراء وأصحاب الحظوة من أهل الثراء لن يشق طريقه بسهولة في عصر تزييف الغناء بالإعلانات وال"نيولوك" والتجارة بالأنوثة قبل الابداع في الأداء ولكنه صوت يستحق التقدير والاحترام. يبقي لي رجاء عند اسماعيل سراج الذين مدير مكتبة الاسكندرية وهو "حبس" ناجي أنس مع دواوين الشعر القديم والحديث لأنه كائن معجون بالموسيقي ويحتاج فقط إلي خبرة القدامي والمحدثين من الشعراء فموسيقي كلماته جليلة وإن كان عمق الفلسفة يغيب أحيانا عن بعض ما يكتبه. وقد يغضب رأيي هذا ناجي أنس، ولكني أحلم به مكبل اليدين بديوان المتنبي وأشعار هومروس، ومكبل القدمين بدواوين كفافيس وشوقي وحافظ إبراهيم.