كلما هممت بزيارة تونس للالتقاء بالأهل والأصدقاء، يوصيني الزملاء من عشاق "الست" بأن أجلب معي من هناك "الأطلال" النسخة التونسية، ولهذه الحفلة التي شدت فيها سيدة الغناء العربي أم كلثوم أغنية الأطلال قصة أحببت أن أرويها لكم، والعهدة علي الرواة وهم كثيرون عاشوا تلك اللحظة في سنة ،1968 التي كانت حلما لكل تلك الأجيال التي تربت علي فطاحلة الغناء ونجومه في ذلك العصر: عبدالوهاب، فريد، أسمهان، نجاة، فايزة، عبدالحليم.. إضافة طبعا لأم كلثوم. وكانت سيدة الغناء العربي قد حلت بتونس بركبها الذي حفل بأعظم العازفين علي مختلف الآلات، من وتريات بقيادة المرحوم أحمد الحفناوي علي الكمان، وعبده صالح علي القانون، وعباس عظمة علي الكونترباص، إلي جانب الايقاعيات وعازف الناي المرحوم سيد سالم. وقد خصصت الصحف في تلك الوقت من عام 1968 صفحات للحديث، ليس فقط عن أم كلثوم وإنما عن كل أفراد الفرقة لدرجة أنهم أصبحوا نجوما، وهم كذلك ويشار إليهم حيثما حلوا ويعرفهم الناس بالاسم كيف لا واليوم مشهود والحدث غير معهود! زارت أم كلثوم أولا ضاحية رادس حيث تفقدت شركة النغم التي كانت تنتج الاسطوانات ومنها اسطوانات "الست" ثم زارت شارع قرطاج بالعاصمة، حيث دشنت شارعا يحمل اسمها ويقع خلف مقر البلدية. وقامت أم كلثوم بعد ذلك بأداء صلاة العصر بجامع الزيتونة، وأم الصلاة الشيخ مصطفي محسن الذي رحب بسيدة الغناء العربي وأكرمها أفضل إكرام. يعني لم تكن موجة التشدد الديني قد هبت بعد علي حياتنا وكان أي إمام مسجد ليفخر بأن أم كلثوم من بين المصلين وأنه ناله ذلك الفخر بالسلام عليها وتبادل الحديث معها وتجولت السيدة العظيمة في أسواق المدينة العتيقة، أو السوق العربي كما يطلق عليها التونسيون وكانت علامات السعادة ظاهرة عليها فقد أعجبتها الصناعات التقليدية وتنظيم السوق حسب التخصص ولبس البائعين والتجار "للشاشية" و"الكبوس" والجلباب أو "الجبة" والسروال وتبادلت الحديث مع بعض التجار الذين حكوا لها أصول تلك الملابس التي أتي بها أهل الاندلس عندما هاجروا منها علي إثر سقوط غرناطة عام1492 واستقروا في تونس ونعموا بالأمان ومارسوا انشطتهم الصناعية والتجارية، ونقلوا بعض عاداتهم في الأكل والملبس، والموسيقي والغناء وعشق أهل تونس مغناهم وانتشر "المالوف" وحافظوا علي هذا النوع من الموسيقي والغناء ليصبح جزءا أساسيا من جوهر أصالتهم وحضارتهم. ويحكي عبدالمجيد الساحلي وهو من شيوخ الصحافة في تونس الذين فازوا بتلك الفرصة الثمينة وهي مرافقة أم كلثوم خلال زيارتها لتونس عن بعض "القفشات" والمفارقات التي حدثت في هذه الاثناء. ومنها عند زيارة الفرقة لمقر الإذاعة وقد استقبلهم الفنان والموسيقار الراحل علي السريتي، وهو أحد عمالقة الفن في تونس، وقام باطلاعهم علي تفاصيل الحفلين الأول والثاني بقصر الرياضة بالمنزه، وطبعا مفهوم اختيار الاستاد لاحتضان حفلات أم كلثوم حتي يتسع لجماهير بالآلاف احتشدت منذ الفجر حتي تفوز بمكان. وفي سياق وصفه للركح أشار إلي الحديقة التي ستغمره وتحيط به من زهور وفل وياسمين لتكون سمة تونس الخضراء، واستخدام المرحوم علي السريتي كلمة محلية تونسية هي "الحشيش" كناية عن الخضرة التي سوف تعبق بأريجها لتعطر الركح الذي تشدو عليه أم كلثوم وتعزف عليه الفرقة، فما كان من العازفين المصريين إلا أن انتفضوا واعترضوا علي وجود "الحشيش" معتقدين أنه ذلك المخدر وفقا للمصطلح المصري وليس الكلأ وفقا للتعبير التونسي. وما إن دقت الساعة التاسعة مساء حتي أخذت الفرقة الموسيقية مكانها علي ذلك المسرح الفسيح المزين بأطنان من الزهور.. وكانت سيدة الغناء العربي تنظر من الكواليس إلي ألوف مؤلفة من الجماهير الذين رابطوا منذ ساعات الظهيرة في كراسيهم فيزداد قلقها وتتجه إلي الصلاة والابتهال حتي يخف قلقها ثم تشرب "الينسون" حتي تدفئ أحبالها الصوتية وتريح أعصابها. وكانت الجماهير تموج كالبحر وهي علي أحر من جمر لمعرفة الأغاني التي ستشدوبها "الست" حيث تكتمت الصحافة تفاصيل الفقرة التزاما بسنة حميدة سارت عليها أم كلثوم في حفلاتها الخارجية. ثم شرعت الفرقة في عزف رائع لأغنية "لقاء السحاب" التي سماها بذلك الشاعر أحمد شفيق كامل عام 1964 لانها أول لقاء بينها وبين عبدالوهاب وشدت أم أم كلثوم "بأغنية فكروني" ثم بقصيدة الأطلال فأبدعت كوكب الشرق في ادائها وأسكرت الجماهير بذلك السكر الحلال إلي أن بلغت قمة النشوة وتفاعل الاحساس الكلثومي مع الاحساس التونسي الذي أطرب "الست" فجاءت "أطلال" اخري ذات مذاق خاص حتي أن أم كلثوم استغرقت ساعتين كاملتين في ادائها بفضل الإضافة والإعادة لكل مقطع بارتجال كانت تطوف خلاله بين المقامات الشرقية. وقد أصبحت "الأطلال التونسية" خالدة خلود كوكب الشرق وخلود مصر التي انجبتها وغزت بعد ذلك الأسواق حتي أن السائح يجدها في جميع العواصم العالمية.