إذا صدقت تصريحات بعض المسئولين الأمريكيين فسوف تتهم الشعب الصيني بالبخل الشديد.. فوزير الخزانة الأمريكي هنري بولسون ورئيس بنك الاحتياط الفيدرالي بن برنانك يحثان بكين علي تشجيع المستهلكين الصينيين لكي يزيدوا من إنفاقهم خاصة علي الواردات الأمريكية ويقللوا من معدل الادخار.. ويري بولسون وبرنانك أن هذا هو الأسلوب الوحيد لخفض العجز التجاري الأمريكي المتزايد مع الصين الذي ارتفع في العام الماضي وحده بنسبة 15% ليصبح 232.5 مليار دولار. وتقول مجلة "تايم" إن ثقافة الحرص المالي قد شكلت نفسيات أجيال صينية عديدة وهذا جعل حجم المدخرات في الصين مع نهاية عام 2006 يصل إلي تريليوني دولار.. ولكن ليس من العدل أن نحمل المستهلكين الصينيين مسئولية هذه العجوزات التجارية التي تعانيها الدول الأخري مع الصين فالادخار الفردي لا يمثل سوي نصف المدخرات الصينية، أما النصف الثاني فهو من صنع الحكومة والشركات، وعلي سبيل المثال فإن البنك المركزي الصيني يسيطر وحده علي أكثر من تريليون من العملات والأوراق المالية الأجنبية.. وأكثر من ذلك فإن الصين بدأت تدخل عصر الاستهلاك الواسع وهو تغير ستكون له اَثار جذرية علي النمو الاقتصادي العالمي. ويذكر مسح أجراه بنك HSBC أخيرا عن أنماط الاستهلاك بين أبناء الطبقة المتوسطة في 6 مدن اَسيوية كبري هي هونج كونج وكوالالمبور وشنغهاي وسول وتايبيه وطوكيو أن الطبقة الوسطي في شنغهاي هي الأكثر ميلا إلي الإنفاق بالمقارنة مع نظرائها في المدن الخمس الأخري.. وقال 75% من أبناء شنغهاي إن الناس الاَن يوازنون بين الاستهلاك والادخار ولم يعودوا مستعدين للتضحية من أجل زيادة المدخرات.. وقال 47% من هؤلاء إنهم لا يدخرون إلا ما يتبقي من إنفاقهم في نهاية الشهر.. وهذا معناه أن التقتير وتأخير الاشباع صار من سمات الماضي في الصين وأن الطبقة المتوسطة الصينية الصاعدة متعطشة للتمتع بثمار عملها خاصة في المدن المزدهرة في قلب الصين التي زاد الدخل فيها بمعدل 12% في العام الماضي وحده. وتشير بعض التقديرات إلي أن تعداد الطبقة المتوسطة في الصين صار يناهز ال 100 مليون نسمة، وتعرف هذه الطبقة بأنها من تزيد دخولهم علي 650 دولارا في الشهر.. والمنتظر أن يزيد تعداد هذه الطبقة بنسبة 300% في غضون عشر سنوات حيث ينتشر نمط إنفاقها من المدن الكبري مثل شنغهاي وبكين وجوانجزهو إلي المدن الأصغر. وتقول الأرقام إن الإنفاق الاستهلاكي يتزايد بقوة في الصين فقيمة مبيعات التجزئة ارتفعت في العام الماضي بنسبة 13.7% مقابل 12.9% في عام 2005 وقد امتد طلب المستهلكين وتوسع في مجال الخدمات مثل السياحة والرياضة والترفيه بوجه عام. ويري بيتر وونج المدير التنفيذي لبنوك HSBC في هونج كونج والصين أن أفراد الطبقة المتوسطة الصينية صاروا يتناولون غذاءهم خارج البيت ثلاث مرات في الأسبوع حاليا ويلتحقون بعضوية أندية الرشاقة واللياقة البدنية ويسافرون للسياحة والترفيه مرتين علي الأقل كل عام برغم أن معظم سفرياتهم لا تزال حتي الاَن داخل حدود الصين أي إنها تنتمي إلي ما يسمي بالسياحة الداخلية. وعلي جانب اَخر يؤكد المسح الذي أجراه بنك HSBC أن أجهزة التليفون المحمول والكمبيوتر الشخصي صارت شائعة ومنتشرة في بلد كان حتي وقت قريب يكدح شعبه من الفلاحين لمجرد الحصول علي لقمة العيش.. وهذا يوفر المزيد من الفرص للشركات التي تريد أن تستفيد من هذا الاتجاه إلي الإنفاق ولذلك أصبحت الطبقة الوسطي الصينية الصاعدة هدفا مهما وسوقا أكثر أهمية للعديد من الشركات العالمية في مجالي السلع والخدمات. وليس معني ذلك كما تقول مجلة "تايم" أن أهل الصين أصبحوا مسرفين مثل الطبقة الوسطي الأمريكية التي يتدني معدل ادخارها إلي الصفر ولكنهم لايزالون مدركين لقيمة الأشياء، وعلي الرغم من تعرض الطبقة المتوسطة الصينية لإغواء الإعلانات عن السلع الترفيهية فإن كثيرين من أبنائها لا يزالون يعتبرون الترف نوعا من البذخ غير الضروري وهم لا يشترون هذه السلع الكمالية مثل الساعات والمجوهرات إلا عندما يتسوقون خلال رحلاتهم خارج الصين. وهناك من يفترض أن الصينيين يشعرون الاَن بحاجتهم إلي الادخار أكثر من الماضي بعد أن تخلت الحكومة نسبيا عن دعم الناس من المهد إلي اللحد كما كان الحال في ظل الشيوعية، ولكن هذا غير صحيح. فسكان المدن الصينية المزدهرة لا يعتبرون همهم الوحيد هو الادخار من أجل سنوات المعاش وتغطية نفقات العلاج المتزايدة بل إن كثيرا من أبناء شنغهاي قالوا إنهم يدخرون من أجل شراء العقارات والإنفاق علي تعليم أبنائهم "تمتلك الأغلبية واحدا علي الأقل من الممتلكات مثل الشقة أو البيت أو السيارة.. الخ" وجاء الادخار من أجل السياحة في المركز الثالث بين أسباب ودوافع الميل للادخار وكانت نسبة الذين قالوا إنهم يدخرون من أجل سنوات المعاش لا تتجاوز ال 14% فقط. وهذه دون شك ليست صورة شعب يواجه سيناريوهات مالية كئيبة بل إنه في قابل الأيام سيكون هذا التحول إلي ثقافة الاستهلاك دافعا لزيادة الواردات الصينية مما يؤدي إلي تجارة دولية متوازنة مع الصين بالنسبة لأمريكا وغيرها.. إن الشعب الصيني يريد تحسين مستوي معيشته وتوفير فرص تعليم أفضل لأبنائه وهو يستثمر ثروته المتزايدة بطرق جديدة وهذا سيفتح الباب أيضا أمام الشركات العالمية للاستفادة من التغير الثقافي الحادث في الصين.