حين كتبت في قضية توظيف الأموال واتهمت انخفاض سعر الفائدة وضعف الأوعية الادخارية ضمن الاسباب الرئيسية وراء عودة المصريين إلي تلك الشركات جاءتني ردود أفعال كثيرة من القطاع المصرفي ترفض هذا الطرح مؤكدة أن معدلات الفائدة الحالية التي أعلن المركزي عدم تغييرها هي بالعكس معدلات مرتفعة تهدد الاستثمار وبل وتنذر بابطاء حركة الاقتصاد علي المدي البعيد. وبين رفع سعر الفائدة وخفضها سيظل الجدل دائراً لا يحمل أي طرف من اصحابه كامل الحقيقة.. فعلي جانب هناك من ينحاز لأصحاب الودائع والمدخرات المتوسطة والصغيرة والذين يعانون الآن من معدلات تضخم تعدت نسبة 12% مع دخول محدودة، هؤلاء يجب رفع الفائدة علي ودائعهم.. وعلي جانب آخر هناك من ينحاز إلي الاستثمار الذي يتأثر سلباً بالفائدة المرتفعة التي ترفع في الوقت نفسه سعر الاقتراض وبالتالي تبطئ من سرعة دوران عجلة الاقتصاد وهو أمر لا نحتاجه الآن. وبين هذا وذاك يبقي سؤال أهم لم أجد عنه اجابة واضحة: هل لدينا سياسة نقدية واضحة ومعلنة تشير إلي صحة أي من الاتجاهين؟ وأي أهداف تقصدها تلك السياسة وأي توجهات تستهدفها. ولن أذهب إلي ما ذهب إليه وزير الاستثمار د.محمد محيي الدين حين قال عام 2003- في عهد محافظ المركزي الأسبق د.محمود أبو العيون بأنه لا توجد سياسة نقدية في مصر. فقد كان ذلك في ظل غياب مؤسسي وقانوني لتلك السياسة، لكن الوضع الآن يختلف بشكل جذري، فقد أصبح هذا الاطار موجوداً ومكتملاً.. بل وبدأت مؤشرات واطر عامة لتلك السياسة في الظهور.. لكن السؤال يتكرر في شكل آخر: هل هذه السياسة فاعلة؟ وتحقق أهدافها؟! لقدا أعلن المركزي من قبل أن سياسته النقدية تستهدف التضخم واستقرار الاسعار وذلك "للمساهمة في بناء الثقة والمحافظة علي معدلات مرتفعة للاستثمار والنمو الاقتصادي" طبقاً لنص ما أعلنه المركزي من أهداف للسياسة النقدية في يونيو 2005. فهل ما يقوم به الآن من تثبيت معدلات الفائدة يستهدف خفض التضخم بالفعل، أم أنه يؤدي في النهاية إلي إبطاء حركة الاقتصاد؟! وهل تستهدف هذه السياسة النقدية دفع الاستثمار أم انها تنحاز إلي أصحاب الودائع والمدخرين؟ واذا ثبت صحة اتجاه المركزي الموجود فما هو الرقم المستهدف من التضخم ومتي يتم تحقيقه؟.. وهل يعلن فقط داخل الغرف المغلقة (اللجنة التنسيقية) مع الحكومة أم أن له أساليب أخري لتنبيه السوق واعلامه بالأهداف علي المدي المتوسط والبعيد كما هو الحال في كل أنحاء العالم. إن السياسة النقدية بطبيعتها سياسة متغيرة غير ثابتة أوجامدة لايمكن أن تعلنها عام 2005 ثم تقرر ألا تقترب منها بعد ذلك الا ببيانات متفرقة هنا وهناك، وللافصاح عنها أطر واضحة معلومة في كل البنوك المركزية في العالم وليست اختراعا جديدا.. وللحق فإن المركزي مؤخرا قد بدأ ينشر بيانات صحفية علي موقعه بالانترنت تقدم بعض المؤشرات.. لكنها - كما قلت - غير كافية لبيان اتجاه السياسة النقدية وأهدافها. نحن هنا لا نطالب ببيان مفصل عن تحرك المركزي وأي أدوات يستخدمها في ذلك.. فهذا أمر غير وارد.. لكننا علي أقل تقدير نطالب بقدر من الشفافية واتضاح الرؤية لتحديد حركة السوق واتجاهاته.. خاصة ونحن في غيبة حقيقية لأرقام اقتصادية موثوق بها. لقد حذرني كثير من الاقتصاديين من الاقتراب من المركزي أو سياساته حيث تم وضع لافتة "ممنوع الاقتراب أو التصوير" معتبراً كل اقتراب منه هو انحياز لطرف ضد طرف آخر وقيل لي: "إنه اقتراب من عش الدبابير".. لكني أظن أنه طالما اصبحنا في عصر يمكننا فيه مناقشة اختصاصات رئيس الجمهورية ومدة توليه حكم مصر فليس من الصعب أو المستحيل الاقتراب من البنك المركزي ومناقشة اتجاهاته وسياساته بل ومحاسبتها علي قدر ما نعلم. إن السياسة النقدية لا تقتصر فقط علي سعر الصرف أو احتياطي النقد الأجنبي.. وهما أمران أساسيان يفاخر المركزي بتحقيق انجازات فيهما.. رغم انهما في الحقيقة انجازات تحسب للمجموعة الاقتصادية بكاملها - وليس للمركزي فحسب - والتي نجحت في تحسين مناخ الاستثمار فجذبت تدفقات الاستثمار المباشر ونجحت في اجراء اصلاحات مالية جريئة أدت جميعها في النهاية إلي استقرار سعر الصرف. هذه التساؤلات كانت عن السياسة النقدية.. أما عن علاقة المركزي بالبنوك.. فهذا أمر اَخر تدور حوله علامات استفهام كثيرة.. فكيف يمكن ان يكون الرقيب مديراً في الوقت نفسه؟! لكن لذلك حديث استكمله الاسبوع المقبل.. ان طال الأجل.