مرة أخري تعود سياسة التراشق بالاتهامات بين الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفيتي -آسف جمهورية روسيا الاتحادية. وهذا الحوار الحاد والساخن والذي جري بين نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني في الخطاب الذي ألقاه في فيلبوس عاصمة لتوانيا احدي جمهوريات البلطيق والاتحاد السوفيتي سابقا والواقعة علي شمال غرب الحدود الروسية وبين فلاديمير بوتن الرئيس الروسي في خطاب الأمة أمام الدوما -البرلمان الروسي، يذكرنا بالحوارات الساخنة التي كانت تجري بين زعماء الكرملين ورؤساء البيت الابيض أيام الحرب الباردة والثنائية القطبية وانقسام العالم الي معسكرين. ومن يستطيع أن ينسي تلك الحوارات الملتهبة التي كانت تنشب بين الرئيس السوفيتي الأسبق نيكيتا خروتشوف وتعليقاته الساخرة حول سياسات الرئيس الأمريكي الأسبق ليندون جونسون أو راعي البقر العجوز مثلما كان يسمي أو بين ليونيد برجنيف السكرتير العام للحزب الشيوعي السوفيتي والرئيس الأمريكي رتشارد نيكسون. وأثناء جولة له في دول البلطيق ودول وسط آسيا -وكلها كانت ضمن الامبراطورية السوفيتية المفككة هاجم ديك تشيني روسيا لاتباعها ما أسماه باستخدام البترول والطاقة كوسيلة للتهديد والابتزاز السياسي، كذلك انعدام القواعد الديمقراطية مشيرا الي ما قامت به روسيا مؤخرا من استخدام الغاز كعامل ضغط علي دول مثل اوكرانيا كما انه في خطاب له في اوزبكستان وكازاخستان طالب بتجنب الأراضي الروسية لدي أي مشروعات جديدة لمد أنابيب البترول والغاز من تلك الدول. ورد الرئيس بوتين في خطابه الي الأمة بعد يومين بالاعتراف بان روسيا لم تصل بعد الي مستوي الرفيق الذئب في الانفاق العسكري الذي يساوي الانفاق الروسي 25 مرة ورغم انه أشاد بشطارة الأمريكيين إلا ان اشاراته الضمنية كانت واضحة فيمن يعني بالذئب مستشهدا بالمثل الروسي القائل -الرفيق الذئب يعرف ما يأكله ولا يلتفت الي احد- مع اشارة لايخطئها أحد عن الديمقراطية الأمريكية وسياسة الغزو والتوسع والحروب وان لم يذكر العراق وافغانستان والاحتمالات العدوانية العسكرية ضد ايران. وكان خطاب الأمة الذي ألقاه بوتن امام البرلمان الروسي هادئا واثقا وغير منفعل وغير عدواني في الشكل وان كان مضمونه حمل رسالة قوية الي نائب الرئيس الأمريكي بل والي الرئيس الأمريكي نفسه ان روسيا تملك خطابا دوليا آخر يختلف عن الخطاب الأمريكي بل ويتناقض معه. وقد باتت ملامح الخطاب او الموقف السياسي الروسي المختلف خلال شهر واحد اتخذت فيه روسيا ثلاثة مواقف واضحة ومغايرة ان لم تكن متناقضة تماما مع المواقف الأمريكية وهي: * استقبال وفد ايراني علي مستوي عالي في موسكو والحوار حول الملف النووي الايراني مع تعهد روسي واضح بعدم الوقوف مع اي محاولة لاتخاذ واجراءات اقتصادية أو عسكرية ضد ايران وهذا ما يتضح حتي الآن من موقف روسيا في مجلس الأمن حيث يجري تنسيق واضح بينها وبين الصين حول هذه القضية. * استقبال وفد من حماس برئاسة امينها العام خالد مشعل ودعوة المجتمع الدولي الي التعامل مع الحكومة الفلسطينية الجديدة التي شكلتها حماس علي أساس انها جاءت عبر انتخابات ديمقراطية حرة مع الضغط من أجل ان تتبني حكومة حماس كل الاتفاقيات والوثائق التي وافقت عليها منظمة التحرير الفلسطينية خاصة الحوار مع اسرائيل وتطبيق خارطة الطريق. * عقد اتفاق استراتيجي مع الصين لمد أنابيب البترول من سبيريا الي داخل الاراضي الصينية وهو الأمر الذي أزعج كثيرا شركات البترول الامريكية والاوروبية التي تعتبر الصين أكبر الأسواق المستوردة للبترول عالميا. ويأتي ذلك كله قبل أن تتولي روسيا ولأول مرة رئاسة قمة الدول الثماني الكبري في يوليو القادم في مدينة بطرسبرج او لننجراد التاريخية خاصة بعد ان اصبحت الطاقة ومصادرها البترولية او النووية هي القضية الرئيسية المطروحة علي جدول الأعمال العالمي سواء بالنسبة للملف النووي الايراني او بالنسبة للمشاريع العملاقة المطروحة لمد أنابيب البترول والغاز عشرات الآلاف من الأميال من بلدان الانتاج الي بلدان الاستهلاك الامر الذي يدفع البعض الي القول بان المرحلة القادمة هي مرحلة الصراع علي الطاقة او حتي حروب الطاقة بل ويذهب هذا البعض الي ان حرب العراق وافغانستان والنوايا العدوانية ضد ايران هي جزء من هذه الحرب ومقدمة طبيعية لها. لقد كانت اسعار الطاقة البترولية الرخيصة كذلك وجود ناقلات البترول العملاقة التي كانت تنقل اكثر من 75% من البترول الي دول الاستهلاك تقلل كثيرا في الماضي من أهمية مد خط أنابيب البترول مباشرة من بلدان الانتاج الي بلدان الاستهلاك. وكانت الأنابيب التي امتدت في الشرق الاوسط من العراق حتي منياء بنياس السوري او ميناء جيهان التركي هي مشروعات قزمية صغيرة اذا قورنت بالمشروعات العملاقة التي جري تنفيذ بعضها ويجري تنفيذ البعض الآخر مثل خطوط الغاز والبترول من سيبريا الي دول غرب اوروبا او ذلك المشروع العملاق بمد خطوط الانابيب بين سيبريا حتي داخل الأراضي الصينية. وهناك مشروعات تناقش هذه الأيام لمد أنابيب البترول من ايران الي الهند بطول 2500 كيلو متر وتكلفة 7 مليارات دولار والمشروع الذي اقترحه هوجو شافيز رئيس فنزويلا بمد انابيب البترول من فنزويلا الي كل من البرازيل والارجنتين بطول 9600 كليو متر وتكلفة قدرها 23 مليار دولار. ومن هنا تأتي الاهمية والمغزي لذلك الحوار الساخن الذي جري من بعيد بين نائب الرئيس الامريكي ديك تشيني والرئيس الروسي فلاديمر بوتن الذي اثار اهتمام الكثير من الباحثين والمعلقين الدوليين من بينهم أناتول ليفن صاحب كتاب "الواقعية الاخلاقية في السياسية الخارجية الامريكية" الذي قال ان الحوار الساخن قد اظهر بوتن كرجل دولة من الطراز الاول بينما كان تشيني كعادته مندفعا. اما صامويل شاراب الاستاذ في جامعة اكسفورد فقد اكد انه علي الولاياتالمتحدة والغرب بشكل عام ان تدرك ان التعامل مع روسيا في عصر بوتن يختلف عنه ايام يلتسين حيث هناك المزيد من الثقة بالنفس والمزيد من القدرة والإمكانات الاقتصادية ولم تعد روسيا مستعدة لان تعطي الخد الاخر لمن يضربها علي الخد الأيمن بعد ان استعادت قدرتها علي الاختلاف مع الآخر بل والحاق الاذي به.