رغم تعدد التفسيرات للفوز المفاجئ لعمدة طهران المحافظ أحمدي نجاد بمقعد الرئاسة في ايران الا انه يبقي التفسير الأرجح هو ان نجاد اصبح رئيسا لايران بدعم فقراء بلاده الذين يتطلعون للخلاص من فقرهم ويتطلعون للقضاء علي رؤوس الفساد الذين حرموهم من مستوي معيشي لائق ومناسب. لقد كان أول تفسير لفوز نجاد هو الذي قدمه منافسه رافسنجاني حينما اتهم المحافظين بالتدخل في الانتخابات لصالح عمدة طهران، وهو ما اشارت إليه علي استحياء وزارة الداخلية حينما اعترفت بوجود اخطاء في بعض اللجان الانتخابية. وربما ساهم تكتل المحافظين وراء نجاد والمساندة القوة والداعمة له في فوزه، ولكن لم يصل الأمر إلي حد الاتهام بتزوير الانتخابات لصالح عمدة طهران، لا في عملية التصويت ولا في عمليات فرز الأصوات حتي الاصلاحيون انفسهم الذين تكتلوا في انتخابات الاعادة وراء رافسنجاني باعتباره الخيار الأوحد لهم لم ينخرطوا في مثل هذه الاتهامات، وهو نفس الأمر الذي ينطبق علي رافسنجاني. ثم ان تحليل الأصوات التي حصل عليها نجاد يوضح أنه ظفر بعدد لا بأس به من أصوات الشباب الايراني وهذا يوضح أن نجاد نجح في اجتذاب قطاع مهم من مؤيدي الاصلاحيين في ايران وهذا أمر لا يتم عادة بالتدخل في العملية الانتخابية، ولكنه يتم من خلال الدعاية الانتخابية التي جعلت قطاعا مؤيدا للتيار الاصلاحي يتخلي عنه ويمنح تأييده للعمدة المحافظ. كما فسر آخرون نجاح نجاد في انتخابات الرئاسة الايرانية بتصاعد حدة العداء الامريكي لايران ولذلك اتجه كثير من الناخبين لمنح تأييدهم لمن هو أكثر تشددا في مواجهة أمريكا وحجبوا أصواتهم عن منافسه الذي حرص خلال حملته الانتخابية علي تأكيد نواياه لتحسين العلاقات مع الولاياتالمتحدةالامريكية. ويضيف آخرون لهذا التفسير ان واشنطن رغم ذلك خذلت رافسنجاني ورفضت تليين مواقفها تجاه طهران ولو شكليا لدعمه انتخابيا، بل علي العكس مضت قدما في اطلاق تهديداتها ضد ايران، وهو ما عزز من موقف نجاد المتشدد. وربما يكون لهذا التفسير المزدوج تأثيرا في نجاح نجاد انتخابيا، ولكن الأغلب انه لم يكن تأثيرا كبيرا بحيث يقلب الموازين الانتخابية رأسا علي عقب في ايران ويلحق برافسنجاني هذه الهزيمة الثقيلة في وقت كانت كل التوقعات ترشحه هو للفوز في الانتخابات فكل الناخبين في ايران يعلمون علم اليقين ان السياسة الخارجية الايرانية لا يحدد خطوطها الرئيس وانما المرشد العام علي خامئني، فضلا عن أنه حتي ولو كان رافسنجاني سوف ينتزع هذا الحق فانه كان سيصطدم بأغلبية ساحقة للمحافظين في البرلمان وهي أغلبية كانت كفيلة بمنعه من اجراء أية تحولات دراماتيكية سواء في السياسة الخارجية كما يبشر بذلك في حملته الانتخابية، أو حتي في السياسة الداخلية خاصة ما يتعلق باطلاق مزيد من الحريات وحقوق الانسان، وهو ما أجهض محاولات الرئيس الايراني السابق خاتمي طوال ثماني سنوات طارد فيه المحافظون انصاره منهم من زجوا به في السجن ومنهم من أطاحوا به من السلطة. ولذلك كله يبقي التفسير الأقوي لهذا النجاح المفاجئ لعمدة طهران في انتخابات الرئاسة الايرانية هو نجاحه خلال حملته الدعائية في كسب أصوات الفقراء حينما قدم نفسه لهم علي أنه نصيرهم الذي سينقذهم من البطالة التي تمسك بخناق الاقتصاد الايراني وتصل نسبتها إلي 25% وسيحميهم من التضخم الذي يلتهم دخولهم المحدودة من خلال ارتفاع اسعار دائم وملتهب خاصة في السلع الغذائية، وسيقضي لهم علي الفساد الذي يزعجهم ويؤرقهم ويسلبهم التمتع بمستوي معيشي مناسب خاصة وان بلادهم ليست فقيرة وتحظي بنحو 45 مليار دولار كل عام من عائدات النفط وحدها. وساهم في تصديق فقراء الناخبين لعمدة طهران البساطة التي يتعامل بها في حياته وعمله وهو يدير العاصمة الايرانية فهو يرتدي الثياب البسيطة ويقف في طوابير الخبز مثله مثل المواطنين العاديين ويرفض ان يتقاضي اجراِ عن عمله كعمدة لطهران. كما ساهم أكثر في ترجيح كفته ان منافسه رافسنجاني علي النقيض تماما.. كون بعد الثورة الاسلامية ورئاسته السابقة لايران ثروة ضخمة وله أعمال تجارية واسعة وتورط او اتهم في عدد من قضايا الفساد. وهنا كانت المقارنة لصالح نجاد بالطبع لان الاقتصاد يسبق السياسة دائما والمشكلة الاقتصادية تكون ضاغطة أكثر من المشكلة السياسية وهكذا. رغم الحاجة الملحة الكبيرة في ايران للانفتاح السياسي وتوسيع نطاق الحريات السياسية واعطاء اهمية لمسائل حقوق الانسان وتمكين المرأة وعدم اضطهادها الا ان الناخبين حركتهم في الاساس ازمتهم الاقتصادية ووجهتهم مشكلة البطالة وحرقتهم المعاناة من ارتفاع الاسعار ليمنحوا اصواتهم لمن وعدهم بالتخلص من كل هذه المشاكل والازمات والمعاناة وانقاذهم من الفساد الذي حرمهم من الحد الادني من حقوقهم وهو الحصول علي مستوي معيشي مناسب وآدمي. وليست ايران وحدها التي يمكن ان يحدث فيها ما حدث خلال أية انتخابات.. فلقد سبق ان حدث ذلك في الولاياتالمتحدة نفسها التي تباهي الأمم بديمقراطيتها وبما لديها من حريات سياسية وحقوق للانسان وتسعي لتصدير هذه الديمقراطية خارجها. ألم يفاجئ الشاب غير المشهور بيل كلينتون حاكم احدي الولاياتالمتحدة الصغيرة بالفوز الكبير في انتخابات الرئاسة بعد الاطاحة ببوش الأب الذي كان خارجا وقتها مباشرة منتصرا من حرب الخليج؟! وألم يحقق كلينتون هذا الفوز بعد ان رفع شعاره الذي صار حكمة فيما بعد "انه الاقتصاد يا غبي"؟! ولعل ما حدث في ايران يكون درسا لبعض المحللين والذين يحبون ان يسموا أنفسهم اصلاحيين في بلادنا الذين تقودهم افكارهم بعيدا عن شطآن الواقع.. نعم نحن نحتاج لمزيد من الاصلاح السياسي ونحتاج لمزيد من الانفتاح الديمقراطي ولكن يجب الا ينسينا ذلك المشاكل الاساسية التي تؤرق الغالبية العظمي من أهلنا وفي مقدمتها مشاكل البطالة والاسعار والفقر ويجب ان تكون منتبهين ان جماعات التطرف في الثمانينيات حاولت استثمار هذه المشاكل للاستيلاء علي الشارع حينما قدمت كوادرها في بعض القري والاحياء الشعبية اللحوم والخبز والسلع الأساسية بأسعار منخفضة للناس، وقدمت أيضا عددا من الخدمات الصحية والتعليمية، لابنائهم بأسعار رخيصة. انه فعلا.. الاقتصاد يا ذكي!