الدكتور حيدر إبراهيم، من كبار الباحثين والمفكرين السودانيين، ولد عام 1943، نال درجة الدكتوراه في فلسفة العلوم الاجتماعية في جامعة فرانكفورت، وهو أستاذ في عدد من الجامعات العربية، كما عمل في العديد من المؤسسات العلمية البارزة، له العديد من المؤلفات التي أثرت المكتبة العربية من بينها: "التغيير الاجتماعي والتنمية"، "لاهوت التحرير"، "الدين والثورة في العالم الثالث"، "أزمة الإسلام السياسي"، " التيارات الإسلامية وقضايا الديمقراطية"، "العولمة وجدل الهوية"، "المجتمع المدني والتقليدي في السودان"، "المجتمع المدني والتحول الديمقراطي في السودان". حول رؤيته للمد الإسلامي في العالم العربي، وتجربة التيار الإسلامي في السودان، وتفسيره لميل الإخوان المسلمين في مصر نحو النموذج الباكستاني، ورفضهم للنموذج التركي، وغيرها من الأسئلة دار الحوار: ما تفسيرك للمد الإسلامي الذي صاحب الثورات العربية؟ وهل ذلك سيأخذ المستقبل العربي نحو منطقة مظلمة؟ يمكن تفسير المد الإسلامي الذي صاحب الثورات العربية بكونه سيرورة تاريخية-اجتماعية كان لابد أن تصل الي المحطة الحالية التي انتهت بسيطرة سياسية للاحزاب الإسلامية علي البرلمانات العربية والشارع ومعظم المجتمع المدني. ظلت المجتمعات العربية راكدة ومحافظة لسنوات طويلة تمكنت السلطة خلالها من تحويل الدين من عقيدة إلي أيديولوجيا توظف لدعم الحكم القائم. وهذا التوظيف للدين مارسته كل النظم حتي تلك التي تلصق بها صفة العلمانية. وصارت هذه الممارسة قاعدة في السياسة والحكم، جعلت من الدين مكونا أساسيا وأصيلا لكل مناحي الحياة في المجتمعات العربية. ويمكن القول بلا مبالغة أن التاريخ السياسي العربي هو تاريخ الدولة الدينية بامتياز، مع فروق في الدرجة فقط وليس في النوع. وما نسميه الآن"المد الإسلامي" ليس ظاهرة جديدة ولكنها مرحلة في الانتشار الديني الموجود أصلا. والجديد هو ظروف اقتصادية وسياسية وثقافية مواتية وأفضل له لكي ينشط ويتمدد. لذلك ما حدث منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي ومابعدها:حرب اكتوبر1973 واطلاقها للفورة النفطية ثم تعاظم دور الدول النفطية الغنية والمحافظة مع تراجع دور الدول القومية المنفتحة نسبيا. وجاءت الثورة الإيرانية لتضفي علي تديين المجتمعات بعدا شعبيا وثوريا غير مرتبط بالسلطات الحاكمة. وعلي المستوي العالمي، كان الفكر الاشتراكي والتقدمي في قمة أزمته ولم يعد ملهما، خاصة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي. النهضة والتنوير يقول د. حيدر لقد دأب الكثير من المحللين علي ارجاع ما يسمي ب"المد الإسلامي" إلي فشل تجارب الدول القومية أو الاشتراكية أو العلمانية. هذا تحليل في نظري فيه قدر كبير من التدليس، أي تعتيم الحقائق. فالعالم العربي لم يعرف أي نظم بهذه الصفات وبالتالي لم تجرب الشعوب العربية الإشتراكية أو القومية أو العلمانية لكي ترفضها. يأتي مثل هذا التحليل ضمن إستراتيجية: خلق أو صناعة العدو ثم إدعاء هزيمته أو فشله. فلو عرف العالم العربي الاشتراكية الحقيقية لم يكن من الممكن أن تصعد التيارات الدينية بسبب احتمالات تغير الواقع وتحسن نوعية الحياة مما قد كان يمكن أن يفقدهم فرصة استغلال ظروف المواطنين المعيشية وتجنيدهم في الأحزاب الدينية، كما حدث الآن. ولو عاشت المجتمعات العربية أي قدر من العلمانية لتغير العقل والوعي في العالم العربي ولأصبح من الصعب تزييفهما أو تغييبهما مثل الظروف الحالية. ولم يكن عبد الناصر ولا بورقيبة ولا صدام ولا علي ناصر ولا حزب البعث علمانيين، بل كانوا جميعا داخلين في مزايدات مع التيارات الدينية والمؤسسات الدينية المؤثرة في الداخل. فالدولة الناصرية التي تتهم بمعاداة الإسلام لأنها صارعت جماعات الإسلام السياسي المنافسة، كانت شديدة المزايدة وكثيرة التراجعات لنفي التهمة. يتجاهل أصحاب التحليل المنحاز لمقولة تجريب العلمانية وفشلها، أن(عبدالناصر)هو الذي قام بعملية تطوير الأزهر، وهو الذي انشأ مدينة البعوث الإسلامية، وأسس المعاهد الدينية في أنحاء أفريقيا، وكون المؤتمر الإسلامي بسكرتارية أنور السادات، وأطلق إذاعة القرآن الكريم الحالية. وبورقيبة رغم سلوكياته المستفزة للمتدينين مثل الافطار نهارا في رمضان، وعلي شاشة التلفزيون، إلا أن معركته الحقيقية لم تكن مع الدين ولكن مع المؤسسات الدينية التقليدية(جامعة الزيتونة) ثم مع الحركة الدينية السياسية الجديدة. فقد نافسهم في مرجعية الإسلام، وهو الذي اسمي تجربته الجهاد الأكبر الذي يعني معركة ضد التخلف وتحقيق التنمية. ولم يبعد من لغة الدين. كان هذا التاريخ هو الحاضنة التي افرخت الأحزاب الدينية التي هيمنت علي الساحة السياسية وغدت المستفيد الأعظم من التحول الديمقراطي. أما المستقبل العربي فهو يعتمد علي مدي قدرة هذه الأحزاب علي أن تكون عصرية وتجيب علي أسئلة التنمية والعدالة الاجتماعية، وبناء مجتمع قائم علي العلم والعقلانية والإبداع الحر، ثم الانفتاح علي العالم الخارجي بندية وتكافؤ. المعركة ليست حول الدين والإيمان ولكن حول التقدم والنهضة والتنوير. فهي معركة سياسية-اجتماعية وثقافية وليست دينية بأي حال من الأحوال. ولابد من اليقظة وعدم التورط في معارك دينية جانبية من مخلفات العصور الوسطي. الغرور والزهو هل يمكن الوصول مع التيارات الإسلامية إلي أرضية مشتركة في العمل السياسي والفكري؟ يعتمد ذلك علي تغيير الإسلاميين لبرامجهم السياسية وعلي رؤاهم الفكرية. وقد يصيبهم الانتصار الانتخابي الحالي بقدر من الغرور والزهو، ويشعرون بعدم وجود حاجة للتعاون مع الآخرين وأنهم مكتفون ذاتيا. وهناك عقبة أخري، تقوم علي غرور آخر، فكرة أنهم يعملون بما أنزل الله، وأصحاب حقيقة مطلقة وليست وضعية. وهذا يعني أن الآخرين ليس لديهم ما يضيفونه لهم. ولكن نزولهم من سماء الايديولوجيا الي أرض الواقع سوف تتغير نظرتهم للأمور. كيف تنظر إلي التجربة الإسلامية في السودان؟ وهل نجحت أم أخفقت في تحقيق أحلام السودانيين؟ اخفقت التجربة الإسلامية في السودان لأسباب عديدة، أولها أن طريقة الوصول إلي السلطة تحدد بصورة قاطعة مسيرة النظام القائم. فقد وصل هذا النظام الي السلطة عن طريق الانقلاب العسكري علي برلمان كان الاسلاميون يمثلون القوة الثالثة فيه. وهذا يبين جيدا موقف الإسلاميين غير المبدئي من الديمقراطية. وبقيت عقدة عدم الشرعية تلازم النظام حتي اليوم، رغم الانتخابات العديدة المزوّرة والدساتير الملفقة. الأسباب الأخري تكمن في غياب برنامج للحكم في بلد متعدد الثقافات وفقير ومتخلف اقتصاديا مثل السودان. وقد كثفت التجربة السودانية الفقر الفكري المدقع لهذه الجماعات، فهي لا تمتلك اجتهادات متقدمة في القضايا المستجدة مثل وضعية غير المسلمين في دولة إسلامية، إدارة الاقتصاد في اتجاه إنتاجي وعادل اجتماعيا. دور المرأة، العلاقات الدولية في عالم يتعولم بسرعة. لذا انتهت تجربة الإسلاميين السودانيين بتقسيم الوطن وإفقار ما تبقي، وهجرة الملايين من الكفاءات والكوادر بسبب الفصل من العمل وتدني نوعية الحياة. في هذا السياق هل يمكن تطبيق التجربة السودانية في مصر؟ وما هي أوجه الاتفاقات أو الاختلافات بين التجربتين؟ الأوضاع في مصر تختلف عن السودان، وهذه بديهية؛ ولكن الإسلاميين هم الإسلاميون لأن المرجعية واحدة: كتاب الله وسنة رسوله. فهم لا ينطلقون من الواقع إلي الفكر بل العكس. فهم أصحاب أفكار جاهزة وثابتة يعملون علي ادخال الواقع فيها قسرا.إذ يتعامل الإسلاميون بما يسمونه الثوابت والقطعيات في الشريعة وهذه أمور لا تخضع لنسبية المكان والزمان. وهذا واضح في نظرية الإسلام صالح لكل زمان ومكان. كذلك في شعار الإسلام هو الحل، فهل يختلف الإسلام في مصر عنه في السودان؟.