لم يتفاجأ كثير من المتابعين والمراقبين من نتائج الانتخابات البرلمانية، التي جسدت صعود نجم تيار الاسلام السياسي وحيازته علي غالبية الأصوات. فهذا الأمر - وان كان مفجعا في حد ذاته - الا أنه في الحقيقة يبدو منطقيا تماما في ضوء الخراب السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي ران علي وجه الحياة في مصر خلال الأعوام الأربعين الماضية. والذي كان من أهم مظاهره ذلك الفساد الاقتصادي واسع النطاق، والذي لاتخطئه العين ولو كانت كليلة، والكوارث الاجتماعية المتمثلة في انتشار الفقر والبطالة والجريمة (باعتبارها عناصر متلازمة يفضي كل منها الي الآخر)، وتدهور الخدمات العامة كالتعليم والصحة والأمن... الخ. فضلا عن انهيار هيبة الدولة المصرية وتراجع دورها الاقليمي والدولي، وسيطرة الاحساس العام بالمهانة الشخصية والوطنية والقومية. تجريف الحياة السياسية لقد تزامن كل ذلك مع التضييق والاختراق وزرع العملاء والهيمنة البوليسية علي كل الفعاليات والقوي السياسية والنقابية الشرعية، بما كاد أن يقضي عليها بالكامل ، حيث ندر أن تجد حزبا أو نقابة واحدة لاتعاني من الانقسام والصراع . بما كاد أن يفضي الي تجريم العمل السياسي في قنواته الحزبية القانونية، فضلا عن تلك التي لم تفلح في انتزاع شرعيتها الرسمية فكانت مهددة بالاعتقال والتعذيب. وهو ما أدي الي تفريغ الفضاء السياسي المصري من أي ممارسة سياسية جادة،وتجريف الحياة السياسية وافقارها علي نحو مريع. وأنا هنا لاأبريء الأحزاب والقوي السياسية المدنية ولكني أقدم الظرف الموضوعي الذي كان يحيط بها ، فاذا أضفنا اليه الظرف الذاتي المهلهل والمليء بالأطماع والمفاسد وألوان الاستحواذ علي القيادة والسلطة مهما كلف الأمر، لوصلنا الي ذات النتيجة. مما أدي بدوره الي سيطرة حالة من الجهالة السياسية العامة، التي ساهمت في خلق نوع من الاستعداد الواسع لتقبل الآراء والتفسيرات الغيبية والميتافيزيقية للواقع المأزوم. ومن ثم، تقبل واعتناق مباديء الاسلام السياسي، باعتبار أن هذا التيار - رغم أنه لم يسلم بدوره من التضييق والاعتقال بالطبع - بقي هو الأقرب الي مزاج من يعانون ويلات هذا الواقع. فهو الذي يقدم العزاء النفسي والطمأنينة الروحية والأمل في جنة الآخرة. وهو كذلك الاتجاه الأنسب الي الأفهام المحرومة من الوعي، وذلك بسبب الغيبية والبساطة المعرفية للفكر الذي يتبناه. وأيضا .. باعتباره الفكر الأكثر توافرا في المجال العام ، بل يكاد يكون الفكر الوحيد المتوفر في بعض المناطق الريفية، وبخاصة النائية والبعيدة عن المراكز الحضرية. وذك من خلال دروس المساجد وخطب الجمعة والفضائيات الدينية المتعددة. وقد تصاحب ذلك مع ظهور عناصر هذا التيار بمظهر الضحايا والمضطهدين من لدن نظام أمني قمعي فاسد متخاذل علي نحو لاتخطئه العين، وهو ما أكسبهم نوعا من التعاطف الشعبي العام . تقديم الخدمات الاجتماعية لقد أدي انسحاب الدولة من مجالات الخدمات العامة كالتعليم والصحة والرعاية الاجتماعية والاستثمار الاقتصادي الي اتاحة الفرصة لكي تتقدم وتملأ هذا الفراغ عناصر هذا التيار، حيث استغلت (تلك العناصر) خبرتها التاريخية الممتدة منذ نهاية العشرينيات، معتمدة علي التمويل المالي الكثيف المقدم من دول الخليج، التي تتمتع بوفرة مالية متزايدة، والتي تحاول بشتي السبل نشر أيديولوجيتها المحافظة ومكافحة أية نزعة تحررية وديمقراطية ويسارية في العالم العربي وباقي العالم، فهي لايمكنها احتمال ظهور ناصر جديد في المنطقة يهدد ثباتها واستقرارها وتحجر أنظمتها الملكية المستبدة. فانتشرت المراكز التعليمية (الاسلامية) التي تقدم الدروس الخصوصية شبه المجانية في المساجد، وأنشئت الجمعيات الخيرية (الاسلامية) التي تقوم علي تقديم المساعدة للفقراء والأيتام، وبنيت المستوصفات والمستشفيات الخيرية (الاسلامية) التي تقدم العلاج بأجور زهيدة. وافتتحت المشاغل (الاسلامية) التي توظف الفتيات والعمال، وجري تقديم اعانات الزواج والاعانات التموينية للفقراء والمساعدة علي اتمام فريضة الحج .. الخ. كل ذلك كان تحت سمع وبصر الدولة التي كانت تضطهدهم !!!! ولا أدري هل كانت عيون النظام قد وصلت بها الغفلة الي حد أن لاتري مايقومون به من حلول محل الدولة ؟؟ أم أنها كانت تقصد الي ذلك وتغض الطرف عنه لحسابات معينة ؟؟ لكل هذه الأسباب كان هذا التيار هو الأكثر تواجدا واختراقا لعمق الواقع الشعبي والسكاني المصري، والأقرب الي اكتساب تعاطف القاعدة العريضة من الجماهير المهمشة والفقيرة والكادحة. معاداة الديمقراطية والحريات والدولة المزمع انشاؤها لاتعتمد - حسب تصريحاتهم - علي الآليات الديمقراطية المرتكزة علي التعددية والتبادل السلمي للسلطة واحترام وكفالة حق الاختلاف السياسي والديني ، بل تقوم تحديدا علي تكفير الديمقراطية (وهذا ثابت بتصريحات موثقة من قبل زعماء التيار السلفي علي التحديد)، أو الالتفاف علي تعبير الدولة المدنية ليعني عندهم الدولة غير العسكرية فقط (كما هو لدي أقطاب الاخوان المسلمين) فاتحين الباب علي مصراعيه للسيطرة الدينية من قبل الدولة التي يريدون أن يحكموها علي المجتمع والمواطنين. وهي دولة تقوم علي أبدية السلطة و تقديس الحاكم أو "ولي الأمر"، والخضوع التام له عن طريق تكريس مبدأ "السمع والطاعة في المنشط والمكره"، وعدم جواز نقده أو الخروج عليه. وهو مايعني القضاء التام علي مبدأ التداول السلمي للسلطة عبر المعارضة القانونية أوالاختلاف والتناقض السياسي ، فالسلطة والدولة لهم، هم وحدهم، ولا يحق لأحد منازعتهم اياها، باعتبارهم الوكلاء الوحيدين فيما يتعلق بما يسمونه بتطبيق "شرع الله" !!!. وهي كذلك دولة تقوم علي نفي الآخر المختلف واستبعاده، سواء أكان مختلفا في الجنس (المرأة) أوفي الدين (المسيحيون) أو في المذهب داخل الدين الواحد (الشيعة) أو في السياسة (الليبراليون واليساريون)، ولقد استوقفني تصريح لأحد قادة الجماعة الاسلامية ابان اعتصام مجلس الوزراء، عندما أبدي استعداده لتكليف عناصر جماعته بالقيام بفض هذا الاعتصام بالقوة اذا سمح لهم المجلس الأعلي للقوات المسلحة بذلك. ان هذا يعني أن هذه الجماعة التي راجعت أفكارها فيما يتعلق باستخدام العنف في مواجهة المخالفين ، لم تتراجع عن ذلك بالكامل، وأنهم علي استعداد للعودة الي ذلك العنف ضد مخالفيهم اذا استدعت الضرورة. وطبعا كل شيء سيتم باسم الدين والشريعة. فتح باب الصراع الفقهي واذا كان القرآن حمال أوجه، كما قال الامام علي (كرم الله وجهه)، واذا كان الفقهاء مختلفين، وكان المفسرون متغايرين ، وهذا أمر طبيعي تماما، فان هذا التوجه نحو تديين الحياة السياسية في مصر سيؤدي الي ازكاء الصراعات السياسية المتسترة بأردية فقهية ودينية .. وكل منهم سيدعي أنه وحده الفرقة الناجية وأن الباقين في النار (راجعوا الصراع الدموي بين الشوقيين والجماعة الاسلامية في الفيوم ابان حقبة التسعينيات علي أساس من الخلافات الفقهية).. وهو ما سيعيدنا مرة أخري الي أنماط من الصراع الديني الذي لامجال فيه لأنصاف الحلول أو للمناطق الوسطي كما تتطلب طبيعة الحياة السياسية. بل سنجد أنفسنا مغموسين حتي أذقاننا في أتون الصراعات المتعصبة التي لايمكن حلها الا بالتكفير والقتل باسم الدين. وقد شهدنا طرفا من بداية هذه الخلافات الفقهية بين فصائل من أتباع التيار السلفي ذاته، وبين السلفيين والصوفيين، وبين السلفيين والأزهر .. الخ . ان الحصيلة الوحيدة التي يمكن أن يفضي اليها كل ذلك هي الارتداد بمصر الي عصور الظلام السحيقة .. عصور محاكم التفتيش في الضمائر، وقمع المخالفين باسم المقدس والالهي، وتدمير الحضارة والحرية. انهم يريدون اقامة تلك الدولة التي تقوم علي الالغاء المطلق لأي نوع من الحقوق والحريات الانسانية في الاعتقاد والتعبير والتفكير والتعبد والسلوكيات الشخصية. أخطر مراحل الثورة المصرية واذا كانت المعركة الانتخابية قد تم حسمها علي نحو من الأنحاء لصالح قوي الاسلام السياسي وأصبحت هذه القوي تمثل الأكثرية البرلمانية، فان المعركة القادمة الأخطر هي معركة الدستور .. وهي التي سيترتب عليها مستقبل مصر علي المدي التاريخي المنظور .. انها معركة حياة أو موت .. معركة مصير ووجود .. معركة سيتحقق، اذا تم الانتصار فيها، الحلم بمصر المدنية الديمقراطية الموحدة المتحضرة، رغم أي عارض وقتي، هذا الحلم الذي استشهد من أجله الآلاف من الشهداء، وسالت علي عتباته دماء الآلاف من الجرحي. وخسارة هذه المعركة تعني أن المصريين قد خسروا مصرهم التي تليق بهم (حقيقة لامجازا) لصالح مصر أخري صحراوية وبدوية ومنقسمة ومتخلفة. وأظن أن تلك هي أخطر مراحل الثورة المصرية وأكثرها حرجا. فان اكتمال الثورة ونجاح مشروعها في اقامة المجتمع المدني الديمقراطي العادل مرتبط ارتباطا مصيريا بنتائج هذه المعركة. ماينبغي عمله ان المطلوب الآن هو تشكيل أكبر وأوسع جبهة ممكنة من القوي الاجتماعية المدنية غير الطائفية، تضم العلماء والأدباء والفنانين والكتاب والمهنيين والمرأة والعمال والفلاحين، بكافة تشكيلاتهم ومنظماتهم من اتحادات وجمعيات ونقابات، ومن القوي السياسية ذات المشروع المدني الديمقراطي، بكافة منظماتهم وأحزابهم وتجمعاتهم، للوقوف صفا واحدا أمام هذا المخطط الرجعي المدمر. وقد يحتج البعض بضرورة احترام نتائج الانتخابات والاختيار الديمقراطي والتسليم بما سيقرره نواب الشعب .. وأقول نعم علينا احترام كل ذلك، ولا أحد ينادي بالغاء نتائج الانتخابات أو تعطيل البرلمان.. ولكن علينا أن نحمي الحرية ممن يستثمرونها ويستمتعون بها ثم يحرمون الآخرين منها .. علينا أن نحترم الديمقراطية التي تجرم أي محاولة للانقضاض عليها وتدميرها باسمها نفسه من قبل من يجهرون بالعداء لها ويكفرونها.. رغم انهم وصلوا الي السلطة وحكموا عن طريقها وبواسطتها .. علينا ألا نتقاعس عن انقاذ مصير بلادنا . فنتائج صندوق الانتخابات في النهاية أمر قابل للتغيير من دورة انتخابية الي أخري ، لكن البلاد اذا ذهبت الي مستنقع التطرف الديني وجهالة البداوة والاستبداد الذي يقدس نفسه بادعائه الانتساب الي الدين ، فلن يمكن استعادتها مرة أخري بذات البساطة ....