احتفل المصريون جميعا بعيد الميلاد المجيد .. وكان له مذاق خاص خاص هذا العام تحديدا ويعد الاحتفال بعيد ميلاد السيد المسيح (عليه السلام) في السابع من يناير من كل عام له خصوصيته المصرية، فالكنيسة المصرية الأرثوذكسية هي التي تحتفل في هذا التاريخ بميلاد السيد المسيح وتمسكت به. بل وفي سبيل تمسكها بعقيدتها الأرثوذكسية تعرضت للقتل والاضطهاد علي يد الرومان الذين احتلوا مصر ، وحاولوا فرض عقيدتهم الكاثوليكية عليها . ولكن لم يستسلم قبط مصر وضحوا بحياتهم في سبيل معتقداتهم ، وباتت الشهادة سمه لهم ولكنيستهم ، حتي عرفت "بكنيسة الشهداء" لذلك يعد الاحتفال بعيد الميلاد في السابع من يناير احتفالاً مصرياً خالصاً يختلف عما عليه الوضع في العالم المسيحي كله الذي يدين بالكاثوليكية ، ويحتفل بعيد الميلاد في الخامس والعشرين من ديسمبر . في مصر وبالرغم من خصوصية المناسبة بقبطها الأرثوذكس إلا أن باقي المذاهب القبطية غير الأرثوذكسية تحتفل معهم في السابع من يناير . والأهم من هذا وذاك أن المسلمين - علي المستويين الشعبي والرسمي - يحتفلون مع إخوانهم القبط بهذا العيد ، وغيره من الأعياد القبطية ، كنوع من المشاركة الوجدانية التي تحكمها العديد من الاعتبارات الحياتية والمعيشية ، فضلاً عن الاعتبارات النابعة من الخصوصيات المصرية والمزاج المصري الخاص ، الذي يتميز" بحسن العشرة" والسماحة والاعتدال. ويأتي اعتبار هذا اليوم إجازة رسمية لكل المصريين ليزيد من هذه المشاركة، ويعمق من هذا الإحساس ويأتي متسقا ومنسجما مع المزاج المصري ، ومعبرا بصدق عن اعتداله وتسامحه ، وعما يتمتع به المصريون - عبر تاريخهم الطويل - من وحدة تماسك ، وليؤكد علي العديد من الأبعاد والدلالات ، منها : 1. أهمية المشاركة الوجدانية في تعميق العلاقات والتفاعلات، والمردود الإيجابي لهذه العلاقات والتفاعلات في تقوية النسيج الوطني بين مختلف الفئات والمذاهب الدينية، مما يعمق شعور القبط بالثقة وعمق الانتماء، وبالمساواة مع الأغلبية المسلمة، وأنه لا فرق بين مسلم وقبطي علي أرض مصر. 2. الترجمة الحقيقية لمفهوم الوحدة الوطنية وترسيخ مقوماتها ، واستمرارية التوهج الوطني الذي عبر عن نفسه أصدق تعبير في ثورة 19، وحرصت عليه ثورة 1952م واستمر معمقاً في الوجدان الشعبي ، مما كان له أكبر الأثر في الحفاظ علي الوحدة الوطنية وتماسكها في كل المحن والظروف التي تعرضت لها كما تجلت هذه الوحدة وعلي أروع ما يكون في الخامس والعشرين من يناير ، حيث انصهر الكل في بوتقة المصرية ، من منطلق أن مصر لكل المصريين قبل وبعد الأديان ورغم أنف الجهلاء وعملاء البترودولار. 3. تأكيد علي أن هذه الوحدة لا تتحقق بالشعارات وإنما بالممارسات الفعلية علي أرض الواقع لمقوماتها وأسسها والتي يأتي في مقدمتها: * المساواة في الحقوق والواجبات، فلا فرق بين مسلم ومسيحي إلا فيما يتعلق بالحقوق والواجبات. أما مسألة الدين فهي مسألة داخلية تخص الفرد، فالتعامل معه ينبغي أن يكون بوصفه مواطناً مصرياً وليس كمسلم أو مسيحي. فالمصريون جميعا - وبنص الدستور - متساوون في الحقوق والواجبات ، بلا تفرقة علي أساس من الدين ، أو العرق أو اللون ، أو الجنس ، لأنهم جميعاً تحت راية واحدة ، وعلم واحد ، وأرض واحدة ، وهذا ما يؤكد عليه الواقع المعاش بين المسلمين والأقباط ، حيث التفاعل والتجاور، والزمالة ، والتشارك الذي يصل أحيانا حد التماثل مأكلا ومشرباً وملبساً ، فضلا عن إنهم جميعاً يخضعون لقوانين واحدة بلا تفرقة. * اعتبار مفهوم "المواطنة" هو الفيصل في التعامل علي جميع الأصعدة والمستويات ، دون النظر لأي اعتبارات أخري دينية أو غير دينية ، فالتأكيد علي هذا المفهوم في التعامل الحياتي اليومي ، يزيد من تعميق الشعور بالانتماء والولاء للوطن ، ويساعد علي التعامل مع مختلف القضايا مهما كانت حساسيتها. * اعتبار"الهم القبطي" جزءا من الهم الوطني العام، من حيث طرح المشكلات وإفساح المجال لمناقشتها علي جميع المستويات، ومن كل التيارات. فليست المناقشة وقفا علي أحد ، ومن حق المسلم والقبطي مناقشتها دون أدني حساسية ، ما دامت الأهداف نبيلة ، وتعمل في إطار من الشرعية ، والاحترام المتبادل ، وتهدف إلي تحقيق المصلحة العليا للمجتمع * إظهار الوجه الحقيقي للإسلام ، وتسامحه ، خاصة في ظل فتاوي وتصريحات تيارات الجمود والتخلف ، والتي تسيء للإسلام بشريعته السمحاء التي يحترم كل الديانات والخصوصيات الثقافية ، ويعترف بالأخر ، حريته في إقامة شعائره وعقائده لأن مصر التي تجعل من الإسلام دينها الرسمي ومصدر التشريع لقوانينها ، لا تفرق بين مسلم ومسيحي ، فالكل مصريون لهم نفس الحقوق ، وعليهم نفس الواجبات . * استمرارية التطبيق والفهم الصحيح من جانب المسلمين في التعامل مع الآخر غير المسلم ، فالتاريخ الإسلامي يكشف علي مستوي النص والتطبيق العملي انه في عصور قوة الإيمان والمعتقد الإسلامي تترسخ قيم السماحة، ولعل في وصية الرسول (صلي الله عليه وسلم) "لنصاري نجران " خير شاهد علي هذه السماحة التي استمرت سلوكا ومنهجا واتت ثمارها من خلال إسهامات قبط مصر ونصاري ديار الإسلام في ازدهار الحضارة الإسلامية ولم يتم الخروج عن هذا المسلك وعن هذا المنهج إلا عندما أصاب الوهن جسم الدولة الإسلامية ، ولظروف خاصة جدا، يحددها وبدقة الكاتب والمؤرخ اللبناني "جورج قرم" باختلال المزاج الشخصي لهؤلاء الحكام الذين لم يضطهدوا فقط الأقلية غير المسلمة، وإنما اضطهدوا أيضا الأغلبية المسلمة. فما حدث من اضطهاد لغير المسلمين في ديار الإسلام لم يكن وليد عقيدة أو نتاج مرجعية دينية ، وإنما جاء نتيجة فساد الحكام وظلمهم الذي طال المسلمين وغير المسلمين، ونتيجة ممارسات لفئات محدودة من الأقليات الدينية أدت إلي ردود أفعال غاضبة وصلت في بعض الأحيان إلي حد الاضطهاد. وأن لم يؤثر هذا في الاتجاه العام أو تعامل المسلمين مع غيرهم . ومن ثم بقي النسيج واحداً، والمشاركات فاعلة، وإسهامات الأقلية واضحة في بناء الحضارة الإسلامية واستمرارية الأمة المصرية. علي أي حال، علينا أن نعترف أن مصر تمر الآن بلحظة حاسمة من تاريخها ، وهناك من يسعي إلي إثارة الفتن بين أبناء الوطن، ليس فقط بين قبط مصر ومسلميها، بل وبين المسلمين أنفسهم، وهذا ما يلقي علي الكل ضرورة المواجهة والتصدي لكل ما يهدد وحدتهم ، والعمل علي تدعيم النسيج الوطني، كما تفرض اللحظة الحاسمة علي القبط علي وجه الخصوص مسئولية المشاركة الفاعلة في الحياة السياسية ، ومواجهة قوي الفتن الطائفية ، كما يلقي بالمسئولية علي وسائل الأعلام والمؤسسات التربوية والدينية القيام بدور فعال في ترجمة هذه المعاني إلي واقع عملي ممارس تعميقا وتحقيقا لأعز ما نملك في مصرنا الحبيبة وهي وحدتنا الوطنية . ولقبط مصر ومسلمي مصر كل التهنئة بعيد الميلاد المجيد عيد كل المصريين ، عيد الوحدة الوطنية علي الأرض المصرية.