تابعت الجلسات الماضية لمحاكمة الرئيس السابق حسني مبارك وأنا أشعر بقلق شديد علي سيادة المستشار/ أحمد رفعت رئيس المحكمة وما سوف يؤول إليه عقب نهاية المحاكمة. فأي شخص يتابع سير الأمور بعد الثورة ونبض الشارع في الفترة الحالية سوف يدرك حتماً أن الرجل سوف يلاقي مصيراً من مصيرين، أحلاهما مر: فإذا ما حكم علي الرئيس المخلوع بالبراءة سواء لعدم ثبوت الأدلة بتحريضه علي قتل المتظاهرين، أو لعدم تحديد هوية الفاعلين الأصليين في الجريمة أو لغيرها من الأسباب، فإن الرجل سوف يتهم حتماً بأنه من " الفلول" وأنه قد انحاز إلي النظام السابق طوعاً أو كرهاً. وإذا ما حكم عليه بالإدانة، فإنه سوف يتحول إلي بطل قومي ورمز من رموز الثورة، وربما ظهرت له صفحة علي الفيس بوك تنادي بترشيحه لرئاسة الجمهورية ! والواقع أن الرجل في الحالتين ليس "فُلاً" وليس بطلاً، بل غاية ما في الأمر أنه رجل يؤدي الوظيفة التي كُلف بها، وهي ببساطة تطبيق القانون. اكتشفت، بحكم عملي بالقضاء، أن الكثيرين لا يدركون هذه الحقيقة البديهية، وهي أن وظيفة القاضي لا تتعدي أن يكون "لسان القانون" كما يحلو لفلاسفة القانون الفرنسيين تسميته. فإذا ما حكم القاضي للمحكوم في مواجهة الحاكم فهذا لا يعني أن القاضي أصبح يحسب علي المعارضة، وإذا ما حكم للحاكم في مواجهة المحكوم، فإن هذا لا يعني بالضرورة خضوع القاضي للسلطة التنفيذية. وللأسف فإن هذه النظرة الخاطئة للقضاء لم تتحسن قط مع قيام الثورة، بل إنها قد ازدادت سوءاًَ. فمع الحماسة الثورية، وما صاحبها من شعور عام بأن أمور الحكم قد عادت إلي قبضة الشعب بعد طول غياب، فإن البعض قد صار يخلط بين ساحات السياسة وما تتطلبه من وجود جماهيري طاغٍ يفرض رأيه علي السلطات الحاكمة وساحات القضاء الصامتة وما تقتضيه من مهنية وحيدة وتأنٍ. فصار الكثيرون يتعاملون مع القضاء بمنطق " الشعب يريد"، وانطلقت المظاهرات تطالب بمحاكمات سريعة، وقامت الجماهير الغاضبة بمهاجمة المحكمة لأنها قررت تأجيل محاكمة حبيب العادلي، وفي محكمتي جنايات جنوبالقاهرة والسويس قام أهالي الضحايا باقتحام وتحطيم المحكمة، وحاولوا التعدي علي القاضي إثر إخلاء سبيل بعض الضباط المتهمين علي ذمة القضية. كما تحولت أول جلستين من ولأول جلستين من محاكمة مبارك إلي ما هو أشبه بمباراة كرة قدم، يتابعها الجمهور علي شاشات التليفزيون في المنازل والمقاهي، ويبدون استحسانهم لهذا أو استياءهم من ذاك. القاضي الحق ليس هو من يأبي الخضوع للسلطة الحاكمة فحسب، بل هو من يأبي الخضوع لأي ضغوط أياً كان مصدرها. بل أن القاضي كثيراً ما يصدر أحكاماً لا تتفق مع أهوائه الشخصية أو قناعاته الشخصية، إذا كان ذلك ما تمليه عليه نصوص القانون. وهو أيضاً مقيد بما يوجد تحت يده من أدلة وما تقدمه النيابة العامة ويقدمه الأطراف من مستندات ومذكرات. فإذا ما سار القاضي خلف المزاج العام للشارع، فإن ذلك من شأنه أن يجعل للقاضي هدفاً آخر يبغيه غير العدالة وهو استجداء رضا الجمهور. وإذا ما كان ذلك قد يرضي قطاعا من ثوار 25 يناير في القوت الحالي نظراً لأن المتهمين هذه المرة أشخاص مكروهون من الغالبية العظمي من الشعب المصري، فإني أعتقد أن هؤلاء الثوار سيكونون أول من يوجهون اللوم إلي القضاء إذا ما انقلب السحر علي الساحر، وتحول القاضي إلي استرضاء أطراف أخري علي حساب الثوار أنفسهم ! فالقاضي إذا ما انصرف عن المهنية والدقة والحياد في أداء وظيفته، فإنك لا تأمن مساره بعد ذلك، إذ يحدده اتجاه المزاج العام للجمهور، أو للقوي الأكثر ظهوراً أو الأعلي صوتاً في المجتمع، وما أكثر ما يتغير هذا الاتجاه. إن الغرض الأساسي من محاكمة رموز النظام السابق ليس هو توقيع الأحكام وليس هو الانتقام، بل هو إرساء لمبدأ سيادة القانون، ومبدأ أن لا أحد فوق المحاسبة. وهو أيضاً أهم ما يميز ثورة 25 يناير عن غيرها من الثورات السابقة، والتي أعقبتها مجازر ومحاكمات شعبية هزلية بغرض إصباغ شرعية علي شهوة القتل لدي الجماهير الغاضبة. إن خضوع مبارك ورجاله لمحاكمة عادلة أمام القاضي الطبيعي هو إثبات أمام العالم أجمع أن الثلاثين عاماً التي قضتها مصر تحت وطأة هذا النظام الفاسد لم تنل من حضارة ورقي هذا الشعب الأصيل، الذي يحرص علي توخي العدل والتزام الشرعية حتي مع جلاديه. إن خضوع مبارك لأحكام القانون الجنائي والإجراءات الجنايئة هو في ذاته عين انتصار الثورة وهو نقطة النهاية لمنظومة الفساد والاستبداد التي طالما اصطدمت بالقضاء العادي، وطالما لجأت إلي القضاء الاستثنائي. ولا يمكن لأحد أن يدعي أن نصوص القانون الجنائي أو الإجراءات الجنائية قد فصلت خصيصاً لكي تحابي الرئيس مبارك وأعوانه ! فلماذا إذاً نتنازل عن هذا المستوي الراقي الذي ظهرت به ثورتنا ونصر علي الانحطاط بها إلي عبث المحاكمات الشعبية ؟