رغم ما تشهده سورية من اتساع حركة الاحتجاج التي تكسب كل أسبوع بلدات أو قري جديدة، وازدياد عدد المتظاهرين الذي وصل في بعض المدن السورية إلي مئات الآلاف، ورغم الإصرار الواضح من المحتجين والمتظاهرين والشباب علي الاستمرار بدون كلل، وبإرادة صلبة، وتصميم متنام، فإن السلطة السورية وجهازها الأمني مازالت تعتقد بإمكانية الحل الأمني القضاء علي حركة الاحتجاج، والتغلب علي الانتفاضة، وتستعمل لتحقيق هذا الهدف أقصي ما تستطيع من العنف والاعتقال والتعذيب والتنكيل والقتل، ومازالت ترفض استعمال أي أسلوب آخر أو محاولة السير بطريق آخر للخروج من المأزق، وقد تجاوز عدد القتلي من المتظاهرين وحدهم ألفي قتيل إضافة إلي آلاف الجرحي وخمسة عشر ألف معتقل، وعدد مماثل من اللاجئين إلي بلدان مجاورة، وامتلأت السجون، وحولت بعض المدارس إلي مراكز اعتقال، دون أن يلين تصميم المنتفضين وصمودهم من جهة، ودون أن تتخلي السلطة عن الحل الأمني وتلجأ إلي حل آخر، قد يفضي إلي تسوية أو اتفاق يخرج البلاد مما هي فيه، من جهة أخري. اعتراف متأخر تعتقد السلطة السورية أن الحل الوحيد للأزمة (اعترفت السلطة بعد ثلاثة اشهر من الانتفاضة بأنها أزمة فقد كانت تقول إنها أعمال عصابات ومندسين وسلفيين ومتآمرين يستهدفون النظام السوري الممانع) هو العنف، ولايمكن محاورة المنتفضين، لأن لا أحد يحاور متآمراً مسلحاً، ومازالت السلطة السورية وأجهزة أمنها ووسائل إعلامها وتنظيماتها السياسية تقول بأن ما يجري كله من فعل متآمرين، ورغم أنها اعترفت بوجود أخطاء في ممارسات السلطة، وفي هيكلية النظام، إلا أنها أكدت أن هذه الأخطاء تمكن معالجتها ببعض الإصلاحات التي بدأتها السلطة (حسب زعمها) منذ بضعة أشهر، وهي لا تحتاج بكل الحالات إلي تغييرات جذرية وشاملة تطاول النظام السياسي وهيكلية الدولة ومسارها وممارساتها وبرامجها. بينما تري المعارضة السورية علي مختلف أطيافها أن الحل يقتضي إعادة النظر بالنظام السياسي، بتغيير الدستور بدستور جديد، يضمن التعددية السياسية والحريات والديموقراطية وفصل السلطات، ويحقق مفاهيم الدولة الحديثة جميعها بدءاً من مرجعية المواطنة كمرجعية وحيدة وصولاً إلي العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص وتداول السلطة والاحتكام لصناديق الاقتراع. واستطراداً إعادة النظر بهيكلية الدولة وصلاحيات الحكومة ومجلس الشعب ورئيس الجمهورية والمحكمة الدستورية العليا وغير ذلك، أي تأسيس نظام سياسي جديد ودولة جديدة. أما الشباب المحتجون فقد تصاعدت شعاراتهم التي بدأت بالمطالبة بالحرية حتي وصلت الآن إلي شعار إسقاط النظام (ويعنون إسقاط السلطة والنظام السياسي معاً) ويرفضون أي حوار تحت أي هدف آخر. استفحال الأمن وهكذا لامست الأزمة السورية حالة الاستعصاء، فالنظام يرفض أي حل سوي الحل الأمني( مع بعض الإصلاحات التي لا يقبلها أحد) ويستقوي بأجهزة الأمن التي أصبحت أقوي من السلطة والنظام والحزب والجيش وأي شيء آخر، والمعارضة تطالب بإصلاحات جدية وشاملة ومتعددة الجوانب تحول النظام إلي نظام ديموقراطي تعددي وتداولي، وما سيتبع ذلك من تعديلات دستورية وتشريعية وقانونية وغير ذلك، والمنتفضون الشباب لا يريدون حلا إلا بإسقاط النظام. وقد صمت السلطة آذانها عن سماع مطالب المعارضة والشباب، في الوقت الذي تصر المعارضة علي مطالبها، وكذلك الشباب، وليس بين الأطراف الثلاثة أي نوع من أنواع الحوار الحقيقي، والكل في داخله يتساءل: وماذا بعد ذلك؟ فرص ضائعة يبدو لي أمام هذا الاستعصاء المثلث، أن كسره، أو إيجاد الشروط الموضوعية للخروج منه، هو بالدرجة الأولي مسئولية السلطة، فهي الوحيدة التي تملك كل شيء الآن، والقادرة علي طرح مبادرة شاملة تستطيع استيعاب مطالب الآخرين وتهيئة المناخ لحوار جدي مسئول يضع الجميع أمام مسئولياتهم، إلا أن إصرار السلطة (وخاصة أجهزة الأمن) علي استخدام العنف والقمع، واعتقادها أنها قادرة علي ما تسميه (الحسم) أي إفشال الانتفاضة ومنع التظاهر قبل قدوم شهر رمضان (الذي يتوقع الجميع أن يكون كل يوم فيه يوم جمعة، بعد صلاة التراويح)، هذا الإصرار هو الذي يغذي الاستعصاء، ويعطيه نسغ الحياة، ويمنع الوصول إلي أي حل، دون أن تتعظ السلطة وأجهزة أمنها وتأخذ العبر، التي لم تأخذ منها شيئاً خلال الأشهر الأربعة الماضية (منذ بدء الانتفاضة) حيث كانت تفقد كل يوم فرصة جديدة.